ادلة أخرى على حدوث العالم
وأيضا فإن الفلك بكل ما فيه ذو آثار محمولة فيه من نقلة زمانية ، وحركة دورية ، في كون كل جزء من أجزائه في مكان الذي يليه ، والأثر مع المؤثّر من باب المضاف فإن لم يكن أثر لم يكن مؤثّر ، وإن لم يكن مؤثّر لم يكن أثر ، فوجب بذلك أنه لا بد لهذه الآثار الظاهرة من مؤثر أثّرها ، ولا سبيل إلى أن يكون الفلك أو شيء مما فيه هو المؤثر ، لأنه هو المؤثّر فيه ، والمؤثّر فيه مع المؤثّر والأثر من باب المضاف أيضا ، ومعنى قولنا أنّ المؤثّر والأثر والمؤثّر فيه من باب المضاف إنما هو أنّ الأثر والمؤثّر فيه يقتضيان مؤثّرا ولا بد.
ولم يرد أن الباري تعالى يقع تحت الإضافة فلا بدّ ضرورة من مؤثّر ليس مؤثّرا فيه ، وليس هو شيئا مما في العالم ، فهو بالضرورة الخالق الأول الواحد تبارك وتعالى.
فصحّ بهذا أنّ العالم كلّه محدث ، وأنّ له محدثا هو غيره.
هذا إلى ما نراه ونشاهده بالحواس من آثار الصنعة التي لا يشك فيها ذو عقل.
ومن بعض ذلك : تراكيب الأفلاك وتداخلها ، ودوام دورانها على اختلاف مراكزها ، ثم أفلاك تداويرها ، والبون بين حركة أفلاك التداوير ، والأفلاك الحاملة لها ، ودوران الأفلاك كلها من غرب إلى شرق ، ودوران الفلك التاسع الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب ، وإدارته لجميع الأفلاك مع نفسه كذلك ، فحدث من ذلك حركتان متعارضتان في حركة واحدة.
فبالضرورة نعلم أن لها محركا على هذه الوجوه المختلفة.
ثم تراكيب أعضاء الإنسان والحيوان من إدخال العظام المحدّبة في المقعّرة ، وتركيب العضل على تلك المداخل ، والشدّ على ذلك بالعصب والعروق.
صناعة ظاهرة لا شك فيها ، لا ينقصها إلا رؤية الصانع فقط.
ومن ذلك ما يظهر في الأصباغ الموضوعة في جلود كثير من الحيوان وريشه ، ووبره ، وشعره ، وظفره ، وقشره ، على رتبة واحدة ووضع واحد لا تخالف فيه ، كأصباغ الحجل ، والشفانين (اليمام) ، والسّمان ، والبزاة ، وكثير من الطير والسلاحف ، والحشرات والسمك ، لا يختلف تنقيطه البتة ، ولا تكون أصباغه موضوعة إلّا وضعا واحدا كأذناب الطواويس ـ وفي السمك والجراد والحشرات ـ نوعا واحدا كالذي يصوّره المصور بيننا. ثم منها ما يأتي مختلفا كأصباغ الدّجاج والحمام والبط وكثير من الحيوان.