فبالضرورة والحس نعلم أنّ لذلك صانعا مختارا يفعل ذلك كله كما شاء ، ويحصيه إحصاء لا يضطرب أبدا عمّا شاء من ذلك ، وليس يمكن البتة في حسّ العقل أن تكون هذه المختلفات المضبوطة ضبطا لا تفاوت فيه من فعل الطبيعة ، ولا بد لها من صانع قاصد إلى صنعة كل ذلك.
ومن درى ما الطبيعة ، علم أنها قوة موضوعة في الشيء تجري بها صفاته على ما هي عليه فقط ، وبالضرورة يعلم أن لها واضعا ، ومرتّبا ، وصانعا ، لأنها لا تقوم بنفسها ، وإنما هي محمولة على ذي الطبيعة.
ومنها ما يرى في ليف النخل ، والدّوم من النسج المصنوع يقينا بنيرين (١) وسدى (٢) كالذي يصنعه النسّاج ، ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط ، وليس هذا البتة من فعل طبيعة ، ولا بنسج ناسج ، ولا بنّاء ، ولا صانع أصباغ مرتبة. بل هو صنعة صانع مختار قاصد إلى ذلك غير ذي طبيعة (٣) لكنه قادر على ما يشاء.
هذا أمر معلوم بضرورة العقل وأوله (٤) يقينا ، كما نعلم أن الثلاثة أكثر من الاثنين. فصحّ أنه خالق أوّل واحد حقّ لا يشبه شيئا من خلقه البتة لا إله إلّا هو الواحد الأول الخالق عزوجل.
القسم الثالث
باب الكلام على من قال : إن العالم لم يزل (٥) ،
وله مع ذلك فاعل لم يزل
قال «أبو محمد» : (رضي الله عنه) : قد أفسدنا بحول الله وقوته بالبراهين التي قدمنا هذه المقالة. ولكن بقي لهم اعتراض وجب إيراده تقصّيا لكلّ ما موّهوا به.
__________________
(١) مثنى نير ، وهو لحمة الثوب (المعجم الوسيط : ص ٩٦٦).
(٢) السدى في الثوب : خلاف اللحمة ، وهو ما يمدّ طولا في النسيج. الواحدة : سداة. ويجمع على أسداء وأسدية. المرجع السابق (ص ٤٢٤).
(٣) أي غير ذي طبيعة مخلوقة.
(٤) أول العقل : هو البديهيات والمسلّمات.
(٥) ومنهم أصحاب نظرية الفيض.