فإن ذكروا الحديث الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما بينهم وبين أن يروه إلّا رداء الكبرياء على وجهه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره» (١).
ففي هذا الخبر إبطال لقولهم ، لأن البصر منته ذو نهاية وكل ذي نهاية محدود ، وكل محدود محدث ، وهم لا يقولون هذا ، ومعناه : أن البصر قد يستعمل في اللغة بمعنى الحفظ.
قال النابغة :
رأيتك ترعاني بعين بصيرة |
|
وتبعث حرّاسا عليّ وناظرا (٢) |
فمعنى هذا الخبر : لو كشف تعالى الستر الذي جعل دون سطوته لأحرقت عظمته ما انتهى إليه حفظه ورعايته من خلقه. وكذلك قول عائشة رضي الله عنها : «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات» (٣). إنما هو بمعنى : أنّ علمه وسع كل ذلك : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [سورة طه : ٧].
ثم نزيد بيانا بعون الله تعالى فنقول : إنّ قولكم لا يعقل سميع إلا بسمع ، ولا بصير إلا ببصر» فإن كان هذا صحيحا يوجب أن يقال : إنّ لله تعالى سمعا وبصرا فإنه لا يعقل من له مكر إلّا وهو ماكر ، ولا من كان من الماكرين إلّا وهو ماكر ، ولا يعقل أحد ممن يستهزىء إلّا وهو مستهزئ ، ولا يعقل أحد ممن يكيد إلّا وهو كيّاد ، ولا يعقل أحد ممن له كيد ومكر إلا وهو كيّاد وماكر ، ولا خادع إلّا ويسمى : الخادع.
ولا يعقل من نسي إلّا وهو ناس وذو نسيان ، وهذا هو الذي لا سبيل إلى أن يوجد في العالم خلافه. وقد قال تعالى : (وَأَكِيدُ كَيْداً) [سورة الطارق : ١٦].
وقال تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [سورة البقرة : ١٥].
وقال تعالى : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) [سورة النساء ١٤٢].
__________________
(١) رواه مسلم في الإيمان حديث ٢٩٣ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣ ، وأحمد في المسند (٤ / ٤٠١ ، ٤٠٥) ولفظ مسلم عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بخمس كلمات ، فقال : «إن الله عزوجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
(٢) انظر البيت في ديوان النابغة (٦٤) طبعة دار صادر ، بيروت.
(٣) رواه ابن ماجة في المقدمة باب ١٣ ، والنسائي في الطلاق باب ٣٣ ، وأحمد في المسند (٦ / ٤٦).