فإن قالوا : بل نفينا من كلّ من ذلك غير المعهود.
قلنا : هذا لا يعقل ، ولا يتوهم ، ولا يصح به دليل ، ولا ينتفي بما أردتم نفيه به ، وأيضا : فإنّ الباري تعالى لو كان حيا بحياة لم يزل ، وهي غيره لوجب ضرورة أن يكون تعالى مؤلفا مركبا من ذاته وحياته ، وسائر صفاته ولكان كثيرا لا واحدا ، وهذا إبطال الإسلام. ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد : وأما قولهم : إنما خاطبنا الله بما نعقل ، ودعواهم أن في بديهة العقل : أن الفاعل لا يكون إلا عالما بعلم هو غيره ، حيّا بحياة هي غيره ، قادرا بقدرة هي غيره ، متكلما بكلام هو غيره ، سميعا بسمع هو غيره ، بصيرا ببصر هو غيره.
فإنا نقول ـ وبالله تعالى التوفيق : إن هذه القضية كما ذكروا ، ما لم يقم برهان على خلاف ذلك. ثم نسألهم : هل عقلتم قط ، أو توهمتم نارا محرقة تنبت في الشجر المثمر ..؟ وهذه صفة جهنم التي إن أنكرتموها كفرتم.
وهل عقلتم قط طيرا حيّا يؤكل دون أن يموت ، أو يعانى بنار؟ وهذه صفة الجنة التي إن أنكرتموها كفرتم. ومثل هذا كثير ، وإنما الحق ألا نخرج عما عهدناه ، وما عقلناه ، إلّا أن يأتي برهان.
فإن قنعوا بهذا القدر من الدّعوة ، فليقنعوا بمثل هذا من المجسّمة ، إذ قالوا : إنما خاطبنا الله تعالى بما نفهم ونعقل ، لا بما لا نعقل ، وقد أخبرنا تعالى أنه له عينا ويدا ووجها ، وأنه ينزل في ظلل من الغمام.
قالوا : فكل هذه محمول على ما عقلنا من أنها جوارح وحركات ، وأنها جسم ، واقنعوا به منهم أيضا إذ قالوا : ببديهة العقل وأوله عرفنا ، ووجب ألا يكون الفاعل إلا جسما في مكان وبضرورة العقل علمنا : أنه لا شيء إلا جسم وعرض ، وما لم يكن كذلك فهو عدم ، وإن لم يكن عرضا فهو جسم. والباري تعالى ليس عرضا فهو جسم ولا بدّ. واقنعوا بمثل هذا من المعتزلة ، إذ قالوا في إبطال الرؤية بضرورة العقل : علمنا أنه لا يرى إلا جسم ملون ، وما كان في حيّز ، وإذ قالوا بضرورته وبديهته ، علمنا أنّ كلّ من فعل شيئا فإنما يوصف به ، وينسب إليه ، فلو أنه تعالى خلق الشرّ والظلم لنسبا إليه ، ووصف بهما ، واقنعوا بمثل هذا من الدّهرية ، إذ قالوا : بضرورة العقل علمنا أنه لا يكون شيء إلّا من جسم.
قال أبو محمد : وكل طائفة من هذه الطوائف تدّعي الباطل على العقول. والصحيح من هذا ، والحسبة فيه : هو أن كلّ من ادّعى في شيء ما أنه يعرف ببديهة