لم يكن الفعّال عندنا إلّا حيّا ، عالما ، قادرا ـ وجب أن يكون الباري تعالى ، الفاعل للأشياء حيا ، عالما ، قادرا ـ وهذا نصّ قياسهم له تعالى على المخلوقات ، وتشبيهه تعالى بهم ، ولا يجوز عند القائلين بالقياس أن يقاس الشيء إلّا على نظيره. وأما أن يقاس الشيء على خلافه من كل جهة وعلى ما لا يشبهه في شيء البتة ـ فهذا ما لا يجوز أصلا عند أحد ، فكيف والقياس كله باطل لا يجوز ..؟
وأيضا فإنّ الحياة التي لا يعرف أحد بالعقل حياة غيرها إنما هي الحسّ والحركة الإرادية ، ولا يعرف أحد الحيّ إلّا الحساس المتحرك بإرادة ـ وهذا أمر يعرف بالضرورة ، فمن أنكر ذلك ، فقد أنكر الحسّ والمشاهدة والضرورة ، وخرج عن أن يكلم.
فإن قال قائل منهم : «إنّ الموات قد يتحرك» فلم يزد على أن أبان عن قوة جهله ، لأنه إنما قلنا الحركة الإرادية ، فإذا لم يفرق هذا الجاهل بين الحركة الإرادية والاضطرارية فينبغي أن يتعلم قبل أن يتكلم. وكل حركة ظهرت من غير حي ، فليست حركة إرادة له ، ولكنّها تحريك المحرك له ، إمّا الباري تعالى ، وإمّا من دونه. ومما يبطل قولهم ضرورة : أنه إنما سمّي تعالى حيّا لأنه عالم قادر ، ووجدنا أحياء كثيرة ليسوا علماء ، ولا قادرين كالأطفال حين ولادتهم ، وكالنائم المستثقل ، وكالمخدورين ، والجهّال المجانين ، وكضعاف الدور ، والصّوادب (١) ، وما لا ينتقل عن محلّه كالوصل وغيره ، وكالمريض من سائر الحيوان ـ فهذه كلها أحياء ليس شيء منها عالما ولا قادرا ، فصح ضرورة أنه لا معنى للحياة مرتبط بالعلم والقدرة لكن الحق في ذلك : أنّ بعض الأحياء عالم قادر ، وليس كل حيّ عالما قادرا ولا سبيل إلى وجود شيء غير حسّاس ولا متحرك بإرادة.
فإن ذكروا المغمى عليه ، فذلك عائد عليهم لأنه ليس عالما ولا قادرا.
وأما الحسّ ففيه بالضرورة ، فلو جشّ جشّا (٢) قويّا لتألم ، ولأخبر بذلك عند انتباه ـ وكذلك الحسّ والحركة الإرادية باقيان لا بدّ في بعض أعضاء المخدور والمغمى عليه ولا بدّ ـ وقد بيّنا الواجب في هذا وهو أنه لا يسمّى الله عزوجل ، ولا نخبر عنه من طريق الاستدلال باسم يشاركه فيه شيء من خلقه ، ولا بخبر يشاركه شيء من خلقه ، ولكن نقول : إنه تعالى لا يجهل شيئا أصلا ، وهذه صفة لا يستحقها
__________________
(١) كذا في الأصل ، ولم أهتد إلى معناها. ولعلّها من تحريف النسّاخ.
(٢) جشّه بالعصا : ضربه (المعجم الوسيط : ص ١٢٤).