وقد قدمنا ببرهان ضروري آنفا أنه لا بدّ من وجود الواحد ، فإذ لا بدّ من وجود الواحد ، وليس هو في شيء من العالم البتة ، فهو إذا بالضرورة شيء غير العالم ، فإذ ذلك كذلك فبالضرورة التي لا محيد عنها فهو الواحد الأول الخالق للعالم ، إذ ليس يوجد بالعقل البتة شيء غير العالم ولا بوجه من الوجوه ، ولا واحد سواه البتة ، ولا أول غيره أصلا ، ولا مخترع فاعلا خالقا إلا هو وحده لا شريك له.
وإنما قلنا في كل فرد في العالم ، وهو الذي يسمى في اللغة عند العد واحدا على المجاز ، أنه كثير بمعنى أنه يحتمل أن يقسم ، وأن له مساحة كثيرة الأجزاء فإذا قسم ظهرت الكثرة فيه ، وأمّا ما لم يقسم فهو يعد فردا حقيقيا ، وقد ذكرنا برهان وجوب احتمال الانقسام لكل جزء في العالم في آخر كتابنا هذا ببراهين ضرورية لا محيد عنها ، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل : فما تقول في الباء والتاء وسائر حروف الهجاء؟ أليس كل واحد منها واحدا لا ينقسم؟ قيل له وبالله التوفيق : إنّ هذا شغب ينبغي أن يتحفظ من مثله ، لأن الحرف إنما هو هواء يندفع من مخرج ذلك الحرف بعصر بعض آلات الصوت له من الرئة ، وأنابيب الصدر والحلق ، والحنك واللسان والأسنان والشفتين ، فإذ لا شك في هذا فذلك الهواء المندفع جسم طويل عريض عميق ، فهو محتمل الانقسام ضرورة ، فذلك الهواء هو الحرف ، فالحرف هو جسم محتمل للقسمة ضرورة ، وبالله تعالى التوفيق.
الكلام على من يقول إن البارئ خلق العالم جملة
كما هو بجميع أحواله بلا زمان
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : رأينا من يقر بالخالق تعالى ولا يقر بالنبوة ، من يذهب إلى ذلك ، وناظرناه على ذلك ، فقلت : إنّ الذي تقول ممكن في قوة الله تعالى ، والذي نقول نحن من أنه تعالى خلق من النوع الإنساني ذكرا واحدا وأنثى واحدة تناسل الناس كلهم منهما لا يمكنك إخراجه عن الإمكان. فمن أين ملت إلى تلك الحيثية دون هذه؟ فتردد ساعة فلما لم يجد دليلا قال : فمن أين ملتم أنتم إلى هذه الحيثية دون تلك؟ فقلت : لبراهين ضرورية توجب ما قلنا وتنفي ما قلتم.
منها : أنه لو كان ما قلت ، لكان كل من أخرجه الله تعالى حينئذ من العدم إلى الوجود ، من الشبان والشيوخ يعلمون ذلك ويحسونه من أنفسهم ، ويوقنون أنهم الآن به