حققه عنده. وهذه صفة النبوة. فإذا لا بدّ من نبيّ أو أنبياء ضرورة. فقد صح وجود النبوّة والنبي في العالم بلا شك.
ومن البرهان على ما ذكرنا : أننا نجد كل من لم يشاهد هذه الأمور لا سبيل له إلى اختراعها البتة ، كالذي يولد وهو أصم فإنه لا يمكن له البتة الاهتداء إلى الكلام ، ولا إلى مخارج الحروف.
وكالبلاد التي ليست فيها بعض الصناعات وهذه العلوم المذكورة كبلاد السودان والصقالبة ، وأكثر الأمم ، وسكان البوادي نعم والحواضر لا يمكن البتة منذ أول العالم إلى وقتنا هذا ولا إلى انقضائه اهتداء أحد منهم إلى علم لم يعرفه ، ولا إلى صناعة لم يعرّف بها ، فلا سبيل إلى تهدّيهم إليها البتة حتى يعلّموها ، ولو كان ممكنا في الطبيعة التهدّي إليها دون تعليم لوجد من ذلك في العالم على سعته وعلى مرور الأزمان من يهتدي إليها ، ولو واحدا ، وهذا أمر يقطع على أنه لا يوجد ولم يوجد.
وهكذا القول في العلوم ، ولا فرق ، ولسنا نعني بهذا ابتداء جمعها في الكتب لأن هذا أمر لا مئونة فيه ، إنما هو كتاب ما سمعه الكاتب وإحصاؤه فقط كالكتب المؤلفة في المنطق وفي الطب ، وفي الهندسة وفي النجوم ، وفي الهيئة والنحو ، واللغة ، والشعر ، والعروض. إنما نعني ابتداء مئونة اللغة والكلام بها ، وابتداء معرفة الهيئة وتعلمها ، وابتداء تعلم أشخاص الأمراض وأنواعها وقوى العقاقير ، والمعاناة بها ، وابتداء معرفة الصناعات. فصح بذلك أنه لا بدّ من وحي الله تعالى في كل ذلك.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا أيضا برهان ضروري على حدوث العالم ، وأن له محدثا مختارا ولا بدّ. إذ لا بقاء للعالم البتة إلا بنشأة ومعاش ، ولا نشأة ولا معاش إلّا بهذه الأعمال والصناعات والآلات ، ولا يمكن وجود شيء من هذه كلها إلا بتعليم الباري تعالى. فصح أن العالم لم يكن موجودا ، إذ لا سبيل إلى بقائه إلا بما ذكرنا. ثم أوجد معلما مدبرا مبتدأ بتعليمه على ما ذكرنا ـ وبالله تعالى التوفيق.
البراهين الدّالة على صدق مدّعي النبوّة
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وإذ قد تكلمنا على أنه لا بدّ من نبوّة وصحّ ذلك ضرورة ، فلنتكلم على براهينها التي صحّ بها علم صدق مدّعيها إذ وقعت فنقول : إنه قد صح أن الباري تعالى هو فاعل كل شيء ظهر وأنه قادر على إظهار كلّ متوهّم