وقد رام المأمون والمعتصم والواثق على سعة ملكهم لأقطار الأرض قطع القول بأن القرآن غير مخلوق (١) فما قدروا على ذلك.
وكل نبي فله عدو من الملوك والأمم يكذبونهم ، فما قدروا قط على طيّ أعلامهم ولا على تحقيق ما زادوا على ذلك لمن يغضب له من لا دين له. فصح أن الأمرين سواء ، وأن الحقّ حق. فإن قال قائل : فلعلّ هذا الذي ظهرت منه المعجزات قد ظفر بطبيعة وخاصية قدر معها على إظهار ما أظهر. قيل له وبالله التوفيق :
إن الخواصّ قد علمت ، ووجوه الحيل قد أحكمت ، وليس في شيء منها عمل يحدث عنه اختراع جسم لم يكن كنحو ما ظهر من اختراع الماء الذي لم يكن (٢) ، ولا في شيء منه إحالة نوع آخر دفعة على الحقيقة ، ولا جنس إلى جنس آخر دفعة على الحقيقة (٣) ، وهذا كله قد ظهر على أيدي الأنبياء عليهمالسلام فصح أنه من عند الله تعالى ، لا مدخل لعلم إنسان ولا حيلته فيه.
الفرق بين المعجزة والسحر
ونحن نبين إن شاء الله تعالى الفرق الواضح بين معجزات الأنبياء عليهمالسلام وبين ما يقدر عليه بالسحر وبين حيل العجائبيين. فنقول وبالله تعالى التوفيق :
إن العالم كله جوهر وعرض ، لا سبيل إلى وجود قسم ثالث في العالم دون الله تعالى.
فأمّا الجواهر فاختراعها من ليس إلى أيس (٤) وهو من العدم إلى الوجود فممتنع غير ممكن البتة لأحد دون الله تعالى ، مبتدئ العالم ومخترعه. فمن ظهر عليه اختراع جسم كالماء النابع من أصابع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحضرة الجيش فهي معجزة شاهدة من الله تعالى بصحة نبوته لا يمكن غير ذلك أصلا.
وكذلك إحالة الأعراض إلى جوهريات ذاتيات ، وهي الفصول التي تؤخذ من
__________________
(١) وهو قول المعتزلة بخلق القرآن وما نتج عن ذلك من محنة الذين لا يقولون بقولهم.
(٢) راجع الحاشية ٥ ص ١٠٠.
(٣) كتحوّل عصا موسى عليهالسلام حيّة.
(٤) الليس في التعبير الفلسفي معناه العدم ، والأيس خلافه. ويقال : ائت به من حيث أيس وليس ، أي من حيث يكون ولا يكون. انظر المعجم الوسيط : ص ٣٤.