المواتي من سائر جميع الحيوان. فقد ثبت يقينا بضرورة المشاهدة أن محلّ الحياة وعنصرها ، ومعدنها ، وموضعها إنما هو هنالك من حيث جاءت النفوس الحية الناقصة بما في طبعها من مجاورة هذه الأجساد ، والتثبت بها عن كمال ما خصّ بالحياة الدائمة ولم يشن ولا نقص فضله وصفاؤه بمجاورة الأجساد الكدرة المملوءة آفات ودرنا وعيوبا ، فصحّ أن العلو الصافي هو محل الأحياء الفاضلين السالمين من كل رذيلة ، ومن كل نقص ، ومن كل مزاج فاسد ، المحبوّين بكل فضيلة في الخلق ، وهذه صفة الملائكة عليهمالسلام. وصح بهذا أن على قدر سعة ذلك المكان يكون كثرة من فيه من أهله وعمّاره ، وأنه لا نسبة لما في هذا المحل الضيق والنقطة الكدرة مما هنالك كما لا نسبة لمقدار هذا المكان من ذلك ، وبهذا صحت النبوة وهكذا أخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن كثرة الملائكة في الأخبار المسندة الثابتة عنه صلىاللهعليهوسلم ، وبهذا وجب أن يكونوا هم الرسل والوسائط بين الأول تعالى الذي خصهم بالنبوّة والرسالة وتعليم العلوم ، وبين إنقاذ النفوس من الهلكة.
الردّ على من ادّعى أنّ في البهائم رسلا
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ذهب أحمد بن حابط (١) وكان من أهل البصرة من تلاميذ إبراهيم النظام (٢) يظهر الاعتزال ، وما نراه الكافر كان إلا منانيا.
وإنما استجزنا إخراجه عن الإسلام لأن أصحابه حكوا عنه وجوها من الكفر ، منها التناسخ ، والطعن على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالنكاح ، وكان من قوله إن الله عزوجل نبأ أنبياء من كل نوع من أنواع الحيوان ، حتّى البق والبراغيث والقمل وحجته في ذلك قول الله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الأنعام : ٣٨] ، ثم ذكر قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [سورة فاطر : ٢٤].
__________________
(١) أحمد بن حابط القدري كان من أصحاب النظّام في الاعتزال ، وكان يزعم أن للخلق ربين وخالقين ، أحدهما قديم وهو الله سبحانه ، والآخر مخلوق وهو عيسى ابن مريم. وزعم أن المسيح ابن الله على معنى دون الولادة ، وزعم أيضا أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة ، وكان يؤمن بالتناسخ. مات أيام الواثق. انظر الفرق بين الفرق (ص ٢٠٨ ، ٢٠٩).
(٢) هو إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام. كان أحد فرسان أهل النظر والكلام على مذهب المعتزلة ، وله في ذلك تصانيف عدة منها : النكت. وكان أيضا متأدبا ، وله شعر جمع بخمسين ورقة ، وهو دقيق المعاني على طريقة المتكلمين ، والجاحظ كثير الحكايات عنه. توفي سنة ٢٣١ ه.