وقفت على ثوب معمول علمت أن له عاملا غير مجهول ، وكذلك لو سمعت حاسة السمع صوتا لعلم السامع أن له مصوتا منه كان ، ومن بعد خروجه من حلقه بان لسامعه ووضح علمه لعالمه ، وكذلك لما أن رأت حاسة البصر الآيات المجعولات ، وما فطر الله من الأرضين والسماوات ، علم ذو الحاسة بعقله وتمييزه أن لذلك مدبرا جاعلا ، وخالقا محدثا فاعلا ليس لشيء من خلقه بمشابه ولا مشاكل ؛ لأن كل ما يدرك بالتحديد والتبعيض والعيان من الأشياء (١٣٥) ، فالأشياء لا تخلو من أن يكون غيرها جعلها ، أو هي جعلت أنفسها ، فلما أن كان ذلك كذلك نظرنا في خلقها لأنفسها ، فاستحال عندنا وامتنعت من قبوله عقولنا ، لأنها كانت من قبل الجعل عدما ، والعدم لا يجعل موجودا ، ولا يخلق جسما ، لأنه ليس بشيء ، وما لم يكن بشيء فلا يفعل أبدا شيئا ، فضلا عن أن يخلق جسما ، فلما أن بطل لما ذكرنا أن تكون جعلت نفسها ثبت أن الجاعل لها غيرها ، المصور المقدر لخلقها ، فلما أن ثبت أن فاعلها غيرها ثبت أنه بخلافها ، وأنه مباين في كل الأمور لها ، غير مشاكل لشيء منها ، فلما أن صح بعده عن مشاكلتها صح عجز المجعولات عن درك جاعلها ، وثبت انحسارها (١٣٦) عن تحديد خالقها ، فلما أن صح عجزها عن دركه وثبت انحسارها عن تحديد خالقها ثبت بذلك له أيها السائل ما أنكرت من معرفته سبحانه ، فلما ثبت لك معرفته صحت لك بلا شك وحدانيته ، ولما صحت له سبحانه الوحدانية وجبت له جل جلاله الربوبية. فافهم ما عنه سألت وانظر فيه إذا نظرت بلب حاضر ، ورأي وارد صادر يبن لك في ذلك الصواب ، وينكشف لك عنه الحجاب إن شاء الله والقوة بالله وله.
ومن الحجة في ذلك أيضا أن يقال لمن قال ذلك : أخبرنا عن العقل الذي تريد بزعمك أن تقف به على معرفة ربك ، أحجة لله هو فيك أم ليس بحجة له عليك؟
فلا تجد بدا من أن تقول : هو حجة لله فيّ ركبها سبحانه للاحتجاج بها عليّ.
وإذا قال ذلك ، وكان الأمر عنده فيه كذلك ، قيل له : أو ليس كذلك القرآن ، وهو
__________________
(١٣٥) قوله : (من الأشياء) خير (أنّ).
(١٣٦) الحسر : كشطك الشيء عن الشيء. تمت من اللسان.