وأمره ، وتهديده وزجره ، وأسقطت عن أنفسها التكليف ، وتلعّبت بالدين الحنيف ، وقالوا كما قال الله في الذكر الحكيم : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨] ، ولما كان في قولهم إسقاط الحجة ردّ عليهم بقوله : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام : ١٤٩] ، أي إذا ثبت أنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم ، وألا علم عندهم ، وما يتبعون إلا الظن ، وما هم إلا يخرصون ، فقد ثبتت الحجة لله على خلقه ، وأنه سبحانه ما شاء إتيانهم القبائح ، وارتكابهم الفضائح ، (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩].
فأخبر أنه لو شاء أن يجبرهم بالقهر والقسر لهداهم أجمعين ، ولكنه جل وعلا مكّنهم من الأمرين ، وبين لهم النجدين ، وركّب فيهم العقول ، وأرسل إليهم الرسول ، ولو أكرههم لسقطت حكمة التكليف ، وبطل مراده ، وكانت الحجة عليه لا له على عباده ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : ٦٠].
ثم إنهم في زعمهم ليس لهم على صحة دينهم برهان قاطع ، ولا بيان ساطع ، يجوّزون الكذب الصراح في كل ما أتى به الشارع ، لقولهم : إنه لا يقبح منه قبيح ، ولنفيهم التحسين والتقبيح بالعقل ، موادهم سقيمة ، وأشكالهم عقيمة ، طرق عاداتهم منسدة ، وكم قاعدة لهم منهدة ، إن لم يفعل الله شيئا لشيء ـ أيتها الجبرية بزعمكم أنه يلزم الاستكمال تبعا للفلاسفة الملحدين الجهال ـ فما معنى تعليل نفي الحجة عليه بالإرسال.
وكم آية في الكتاب هم عنها عمون ، تنادي بالرد عليهم إن كانوا يعقلون ، (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ٧] ، فسمى الله تعالى المحكمات أم الكتاب ، ترد إليهن المتشابهات ؛ أو المؤولات من الخطابات ، أنزلها الله زيادة في التكليف ، وتعريضا للابتلاء ، ومضاعفة للثواب ، هذا كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من