عمل البر ولا حجة عليه ؛ فإن عذب على قبيح فقد ظلم ، وإن أثيب فلم يستأهل ثوابا على جليل الطاعة ، وليست هذه الصفة من صفة الحكماء.
ألا ترى إلى قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٦ ـ ٥٧] ، فأخبر سبحانه أنه لم يخلقهم إلا لعبادته ، ولم يخلقهم لمعصيته ، ولم يشق ولم يسعد ولم يجبر ، ولم يطبع أحدا على شيء من هذا ، ولم يسم مؤمنا ولا كافرا إلا بإيمانه وكفره وفعله ، لا بخلقه عزوجل ؛ لأنه ليس بظلام للعبيد. ولو طبعهم على شيء من هذا كان المحسن غير محسن ، والمسيء غير مسيء ؛ لأن كل من فعل به شيء وأدخل فيه غصبا كان غير محمود عليه ، ولا مذموما فيه ، وكان المحسن ليس بأحق باسم الإحسان من المسيء ، ولا المسيء بأحق باسم السواية من المحسن ، والتبس الأمر فيما بينهما ، وأمكن لكل أن يدعي ما أحب ؛ لو قال المسيء : أنا محسن ؛ لأمكنه ذلك ، ولما عرف المسيء من المحسن على قولهم وقياسهم.
ثم قال سبحانه : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] ، يقول : (يَعْمَلْ) ، ولم يقل : عملت به وقضيت عليه ؛ وإنما كان أهل الكتاب ، يعني اليهود وغيرهم من أهل الكتاب يقولون : ليس يعذبنا الله ، نعمل ما شئنا ، نحن أبناء الله وأحباؤه ، فأكذبهم الله وأعلمهم وغيرهم أنه لا يظلم أحدا ، وأنه من عمل شيئا جزي به.
ثم قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٨] ، يقول : بدلوا ما أنعم الله به عليهم من إرسال الرسل والدعاة ، والدلالة على الخير كفرا بذلك ، أي جحدوا به ، ودعوا الناس إلى المعصية والكفر به وأحلوهم.
ثم قال مخبرا لهم محتجا عليهم : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأنعام : ١٥١] ، والله أعدل وأحكم من أن ينهى عن شيء وهو منه ، أو ينهى عبدا عن شيء قد أراده ، أو عن شيء لا يقدر على عمله أو على الخروج منه ، أو يأمرهم بشيء لا يمكنهم الدخول فيه ، ولم يكلف الله عباده إلا ما يقدرون عليه ويطيقونه برحمته ورأفته وفضله ، وكل ما نهى الله عنه فليس منه ولم يشأه ، ألا ترى إلى قوله عزوجل : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر : ٧] ، معنى الكفر هاهنا : الجحود له ولنعمه وفضله