كان الأمر على ما يقول الجاهلون ما كان إليهم تقدم ولا تأخر ، ولا احتاجوا إلى بلوى ولا لينظر عملهم. فكان بكل ما يدخلهم فيه عالما أنهم لا يقدرون على غيره. وأي مشيئة لهم حين يقول : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)؟ وكيف لهم بالتقدم والتأخر وقد منعهم من ذلك ، وحال بقضائه وحكمه عليهم بينهم وبين ما أمرهم به من التقدم والتأخر؟ ـ ومعنى : ننظر ، أي : نحكم عليكم بما يكون من خبركم ـ وكتاب الله كله على ما ذكرت من ثواب الله لعباده ، وعقابه لهم كل (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، و (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، وبما (كانُوا يَجْحَدُونَ) ، و (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) ، لم يقل عزوجل في شيء منه : بقضاي عليكم ، ولا بمشيئتي ولا بإرادتي ، ولا بقدرتي فيكم ، ولا بإدخالي لكم في الطاعة ، ولا بإخراجي لكم من المعصية. كل هذا بين أن ثوابه وعقابه على عملهم ، والكتاب كما قلنا يصدق بعضه بعضا ، ليس من كتاب الله شيء ينقض شيئا ؛ لأنه من حكيم عليم ، ولو لا ذلك لكان فيه الاختلاف ، كما قال سبحانه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].
ثم قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٩ ـ ١٠] ، فكيف يقضي بالفواحش ، ثم يقول : (قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)؟ أفتراه خيب نفسه؟! تعالى عن ذلك علوا كبيرا!
ثم قالوا : (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) [ص : ٦١] ، وتعالى عن أن يقول هذا لنفسه ، ولكن قدّمه شياطين الإنس والجن ، ألا ترى إلى قوله : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧] ، اعترافا منهم بذنوبهم ، وأن عملهم وما نزل بهم من العقوبة كان بطاعتهم لسادتهم وكبرائهم ، ولم يقولوا ـ وقد احتاجوا إلى الحجة لعظم ما نزل بهم ـ : ربنا أطعناك واتبعنا قضائك وأمرك ، وما قدّرت لنا. ولو كان ذلك ما تركوا قوله لما لهم فيه من الحجة على الله سبحانه. والسبيل فهو سبيل القصد والخير ، ألا ترى كيف يقول : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] ، يقول : دللناه على سبيل الخير ، فإن شكر فذلك واجب عليه ولنفسه يعمل ويمهد ، وإن كفر بما قلنا به فذلك راجع ضرره عليه ، وإن الله غني حميد عن شكره ، وإنما ثواب شكره راجع عليه ، ونافع له.