وقولنا في ذلك ، والله الموفق لكل رشد وخير ، والدافع لكل سوء وضير : أن رسل الله صلوات الله عليهم ، قد أدوا ما أمرهم الله بأدائه ، على ما أمرهم ، لم يشبهم في ذلك تقصير ، ولم يتعلق عليهم في ذلك من التفريط جليل ولا صغير ، وأنهم كانوا في ذلك كله لأمر الله مؤثرين ، وعلى طاعته سبحانه مثابرين ، وأن الله سبحانه لم يكلفهم أداء الرسالة حتى أوجد فيهم ما يحتاجون إليه من الاستطاعة ، ثم أمرهم بعد ونهاهم ، وكلفهم من أداء الوحي ما كلفهم ، فبلّغوا عنه ما به أمرهم على اختيار منهم لذلك ، وإيثار منهم لطاعته ، وحياطة لمرضاته ، لم يكن منه جبر لهم على أدائه ، ولا إدخال لهم قسرا في تبليغه ، بل أمرهم بالتبليغ فبلغوا ، وحثهم على الصبر فصبروا ، فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧] ، فقال : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، ولو لم يكن التبليغ منه صلىاللهعليهوآله ، باستطاعة وتخيير ، لم يقل له : (بَلِّغْ) ؛ إذ الأمر لمن لا يقدر أن يفعل فعلا حتى يدخل فيه إدخالا ، ويقلّب فيه تقليبا محال ؛ لأن الفاعل هو المدخل لا المدخل ، والمقلّب لا المقلّب. فلم يأمر الله عزوجل أحدا بأمر إلا وهو يعلم أنه يقدر على ضده ، فحثه بأمره على طاعته ، ونهاه عن معصيته ، ألا تسمع كيف يقول : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) [الأحقاف : ٣٥] ، فأمره باحتذاء ما فعل من هو قبله من الرسل ، من الصبر على الأذى والتكذيب ، والشتم والترهيب ، ولو كان الله سبحانه هو (٢٠٤) المدخل لهم في الصبر إدخالا ، ولم يكن منهم له افتعالا ، لقال : صبرناك كما صبرناهم ؛ ولم يقل : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). وكيف يأمر ذو الحكمة والفضل مأمورا بما يعلم أنه يفعله من الفعل؟ فجل الله عن ذلك ، وجل عن أن يكون كذلك. فهل سمعه من جهله سبحانه يأمر أحدا من خلقه أن يفعل شيئا مما هو من فعله مما يتولى إحداثه فيهم ، ويقضي به تبارك وتعالى عليهم ، مما ليس لهم فيه فعل ، ولا افتعال ، ولا تصرف بإدخال ولا إخراج ، مثل الموت والحياة ، وإيجاد
__________________
(٢٠٤) سقطت من (ب).