مبلغين ، ومرسلين مبشرين ومنذرين ، ففعل الله بهم كذلك ، وبعث إليهم الرسل بذلك ، رحمة منه سبحانه لهم ، وعائدة منه بفضله عليهم.
وأما المعنى الثالث : فهو ما أدرك وعلم بالتجربة مما لم يكن ليدرك أبدا إلا بها ، ولا يصح لطالب إلا منها ، من ذلك ما أدركه المتطببون من علم ما يضر وما ينفع ، وما يهيج وما يقمع ، وما يقتل من السموم وما يردع السم عن المسموم ، وما يفسد العصب ، وما يجتلب بأكله العطب ، وغير ذلك مما يطول ذكره ، ويعظم لو شرحناه أمره ، مما لا يدرك أبدا إلا بالتجربة أولا.
فمن هذه الثلاثة المعاني تصح المعارف كلها للعارفين ، ويثبت الفهم للمتفهمين ، وقد يجهل ذلك كله من شاء أن يجهله ، كما يعرفه من شاء أن يعرفه بأهون الأمر ، وألطف الخبر.
فأما التجربة فيجهلها من لم يجرب الأشياء. وأما الفهم والتمييز بالعقل فقد يبطله شارب الخمر بشربه الخمرة فيزيل بذلك ما ركب فيه من لبه ، ومن ذلك رقاد الراقد ، إذا رقد لم يعلم ممن يدخل إليه أو يخرج عنه بأحد ، والتبس عليه الليل والنهار ، وعميت عنه بكليتها الأخبار ، حتى ربما استرقد ليلا فلا يعلم حتى يهجم عليه النهار ، وربما رقد نهارا فلا يعلم حتى يهجم عليه الظلام ، ويزول الإبصار.
فكيف يقول أن أحدا لا يقدر على جهل ما علم ولا علم ما جهل لسبب يعلم ولا بحيلة تفهم؟ ألا ترى أن السكران يعلم في حال سلامة عقله بما يشينه وينقصه ويفضحه من عمله ، حتى لو أعطى من يدعي المروءة منهم ورشى جزاء من الرشاء (٢٤٢) عظيما ، حين سلامة لبه ، على أن يكشف له ثوبا أو يبدي من نفسه عيوبا لم يكن ليفعل ، وإذا شرب وسكر لم يعلم له بسواية ، وجاءت وطهرت منه في نفسه ، ولها الفضيحة والنكاية ، فهل ذلك إلا من جهله بما كان يعلم؟ وقلة معرفته في تلك الحال بما كان يعمل؟ أو ما رأى من علم علما وروى رواية وحكما من علماء وحكماء ، بل من أحكم القرآن وتلا عن ظهر
__________________
(٢٤٢) في (ب) : الدنيا.