ومن ذلك ما قال الله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] ، فأراد خلقه فخلقه ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات : ١٣] ، فأخبر عن نفسه بما أراد أن يجعله منهم ، فجعله وصوره وأوجده كما قال : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢].
وأما المعنى الآخر : فهو الإرادة التي معها تمكين ، وهو قوله سبحانه : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] ، فكان قضاؤه في ذلك سبحانه ما أمر به من أن لا نعبد معه غيره ، وما أمر به من البر والإحسان إلى الوالدين ، فأراد الله سبحانه من العباد أن يطيعوه ويعملوا له بما ركب فيهم وأحسن به إليهم من الاستطاعات ، وما أعطاهم من الآلات ، بالاختيار منهم لطاعته ، والإيثار منهم لمرضاته ، ليثيبهم على فعلهم ، ويعاقبهم على تركهم. ولو أراد منهم الطاعة جبرا ، وصرفهم عن المعصية قسرا لكان كلهم جاريا في طاعته تابعا لمرضاته ، ولم يكن المذنب الشاسع أولى بالعقوبة من المهتدي الطائع ، ولم يكن العامل بالطاعة أحق (٢٩٠) من عامل المعصية ، إذ كانا كلاهما أدخلا في عملهما إدخالا ، واستعملا في إرادة الله استعمالا ، فتبارك الله عن ظلم العباد ، وتقدس عن القضاء بالفساد ، الذي لم يطع كرها ، ولم يعص مغلوبا ، بل أمر ونهى ، وحذر وهدى ، وعرّف النجدين ، وبين العملين ، ثم أعطى كل شيء خلقه ، وأعد للمطيعين الثواب ، وللعاصين العقاب ، ثم قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ١٣٦] ، فأمرهم سبحانه بالإيمان ، وحضهم على التقى والإحسان ، ونهاهم عن الكفر والطغيان ، وعن جميع ما لم يرد من العصيان ، فقال سبحانه : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢] ، وقال : (وَلا
__________________
(٢٩٠) في (ب) : بأهل بالثواب.