والفهم والتمييز والنظر ، كان ذلك منه فيها فعلا ، وكان منه طبعا على قلوبها عما فهمه من التمييز أربابها. فمثّلهم في قلة تفهمهم وإنصافهم لمعقولهم ، وتركهم لرشدهم ، واتباعهم لغيهم بمن طبع على قلبه وختم عن التمييز على سمعه وبصره ، عن أن يعلم ما يعلمون ، أو يفهم ما يفهمون من البهائم التي جعلت قلوبها على غير ما جعلت قلوبهم من ذلك ، وختم عليها فكانت بهائم سوائم كذلك. ألم تر كيف يقول ذو العزة والإنعام : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩] ، وقال : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤] ، يقول : إذ أعطوا من الفهم والتمييز والنطق (٢٩٤) وجودة التحرف في غامض الفكر ما لم تعطه البهائم ، وما قد حجبها عنه العزيز العالم ، وخلقها على غيره من الخلق وصورها على ما قد يراه جميع الخلق ، فأبوا استعمال ما ركب فيهم ، وامتن الله به سبحانه عليهم ، وتركوا النصفة ، وأخذوا في المكابرة والمعاندة لربهم ، الكفر لنعمة خالقهم ، فكانوا لذلك وفيه أضل من الأنعام ، إذ تركوا ما لو علمته الأنعام وعرفته وميزته وفهمته لقبلته وتسارعت إليه ، ولدخلت بأجمعها فيه ، ثم لثابرت إلى الممات عليه. فهذا والحمد لله قول لا ينكسر على من قال به ، بل يصح وينير لذوي العقول ، ويستبين ويصح.
وقد يخرج ذلك على معنى آخر ، فيكون على قدر علمه منهم بما سيكون من اختيارهم للضلال ، وإيثارهم للسفال ، وتركهم للهدى ، وقلة رغبتهم في التقى ، وأنهم لعنتهم وحميتهم وشدة حسدهم لنبيهم ، لا يختارون ما جاء به من الله برأيهم ، وأنهم لا يطيعونه فيما دعاهم من حظهم إليه ، وأنهم سيجاهرون بالجرأة عليه ؛ فلما أن علم الله منهم أنهم يختارون ـ بما ركب فيهم من القدرة والاستطاعة وسلم لهم من الجوارح والآلة ـ معصيته على طاعته ، ومخالفة (٢٩٥) مرضاته ، وأنهم يلقونه يوم الحشر كفارا كذلك ، فختم لهم ، إذ قد علم من غاية أمرهم بذلك ، فختم عليها ولها بما علم أنه يكون آخر اختيارها وعملها. وكذلك قيل في محمد سيد المرسلين إنه صلىاللهعليهوآلهوسلم خاتم النبيين
__________________
(٢٩٤) في (ب) : والنظر.
(٢٩٥) في (ب) : ومخالفته على مرضاته.