هذا من فعال الجائرين ، وأعظم ما عاب سبحانه من اعتداء الظالمين. فلا يجدون بدا من أن ينسبوا إلى الله التجهيل ، والظلم والتعدي ، والجور الجليل ، أو يدخلوا في الحق ويرجعوا إلى الصدق ، فيقولوا : إن الله أمر وأراد حياطة ما ارتضى ، وكره ونهى عن حياطة ما لم يشأ.
وأما ما ذكر من قول الله عزوجل : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٣] ، فقال وتوهم أن هذا الأمر المفعول الذي يقضيه الله هو قضاؤه على الفريقين بالقتال والمزاحفة والاقتتال. وليس ذلك ـ ولله الحمد ـ على ما قال ، ولا على ما توهم من المحال ، أن الله يقضي على الكافرين بقتال المؤمنين ، ولا أنه يقلل المؤمنين في أعين الكافرين تشجيعا منه لهم على قتال المؤمنين وتأييدا بذلك لهم على المهتدين ، ولكن قللهم في أعينهم لكيلا يروهم بحالة الكثرة مع ما في قلوبهم من هيبة الروعة فيهزموا ويذهبوا ويرجعوا ولا يقاتلوا ، فكان ذلك خذلانا لهم وحربا عليهم ، وقللهم في أعين المؤمنين لكيلا يروهم على الكثرة التي كانوا عليها فيهابوا ويخافوا ، فقللهم في أعينهم تأييدا منه لهم ، ومعونة وإحسانا إليهم.
فأما قوله : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) فمعناه : ليقضي الله وعدا كان منجزا ، وهو ما وعد رسوله والمؤمنين من النصر إذا نصروه ، والتسديد لهم إذا قصدوه. ألا تسمع كيف يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧] ، ويقول : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] ، فقضى تبارك وتعالى لرسوله وللمؤمنين عند الالتقاء بما وعدهم من النصر ، وفعل لهم بما ضمن فعله من الأمر ، وتغنيمهم ما وعدهم من إحدى الطائفتين : طائفة الجيش ، وطائفة العير ؛ فغنمهم الله طائفة الجيش كما وعدهم من الأمر ، واتخاذ ما وعد المؤمنين من النصر على الكافرين ، فهو الأمر الذي ذكر الله أنه كان مفعولا ، لا ما يتوهم أهل هذا القول الفاسد المخذول.
وأما قوله : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ٦٢] ، فنصر الله رسوله كما قال سبحانه : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ