بل معنى قوله جل جلاله ذلك : هو إنكار لقولهم الذي قالوا حين دعاهم الرسول إلى الحق وبين ما هم عليه من الباطل والفسق ، فقالوا له استهزاء وعبثا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) [فصلت : ٥] ، فقال الله سبحانه لنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم يحكي قولهم ، ويرد كذبهم عليهم ، فقال : (إِنَّا جَعَلْنَا) ، يريد سبحانه : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة كما قالوا ، وفي آذانهم وقرا كما ذكروا ، بل الزور في ذلك قالوا ، وبالباطل تكلموا ؛ فأراد بذلك معنى الإنكار عليهم والتكذيب لهم والتقريع بكذبهم ، وتوقيف نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم على باطل قولهم ، وجليل ما أتوا به من محالهم ، فقال : (إِنَّا) ، وهو يريد : أإنا ؛ فطرح الألف استخفافا لها. والقرآن فعربي ـ إلى النور والحق يهدي ـ والعرب تطرح الألف من كلامها وهي تريدها ، فيخرج لفظ الكلام إخبار ونفي ، وهو تقريع وإيجاب واستفهام ؛ وتثبتها وهي لا تريدها ، فيخرج لفظ الكلام لفظ شك ، ومعناه معنى خبر وإيجاب في كل ما جاءت به من الأسباب. من ذلك قول الله سبحانه : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١ ـ ٢] ، فقال : (لا أُقْسِمُ) ، وإنما أراد : ألا أقسم ؛ فطرح الألف منها ، فخرج لفظها لفظ نفي ، وهي قسم وإيجاب. وقال في عبده ونبيه يونس صلى الله عليه : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] ، فقال : أو يزيدون ؛ فأثبت الألف وهو لا يريدها ، فخرج لفظ الكلام لفظ شك ، ومعناه معنى إيجاب وخبر ، أراد سبحانه : وأرسلناه إلى مائة ألف ، ويزيدون على مائة ألف.
فأراد بقوله : (إِنَّا جَعَلْنَا) التقريع لهم ، والتوقيف لنبيه على كذبهم ، لا ما يقول الجاهلون إنه أخبر عن فعله بهم. ألا ترى كيف يدل آخر الآية على أولها ، من قوله : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) ، يقول : فإن كان الأمر على ما يقولون وكنا قد فعلنا بهم ما قد يذكرون فلم أرسلناك تدعوهم إلى الهدى (وتزحزحهم عن الردى ، وهم لو كانوا كذلك ، وكنا فعلنا بهم شيئا من ذلك ، ثم دعوتهم إلى الهداية) (٣٣٦)
__________________
(٣٣٦) سقط من (ب).