المسألة التاسعة والعشرون : معنى قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)
ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه حين يقول للمؤمنين : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [الأنفال : ٢١] ، هل كان هؤلاء الذين ذكر يستطيعون أن يقبلوا الهدى ، وأن يسمعوا المنفعة في دينهم؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد كذبوا وجحدوا. وإن قالوا : لا ؛ كان ذلك نقضا لقولهم.
تمت مسألته
جوابها :
وأما ما سأل عنه من قول الله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ، فتوهم أنهم كانوا لا يسمعون لصمم جعله الله سبحانه في آذانهم ، أو لسبب جعله حاجزا بين الهدى وبينهم ، وليس ذلك ـ والحمد لله ـ كذلك. ولو كان الله فعل ذلك بهم لما عاب صممهم ، ولكان أعذر لهم من أنفسهم ، ولما بعث إليهم المرسلين ، ولا أمرهم باتباع المهتدين. وإنما أراد الله سبحانه بذلك حض المؤمنين على الطاعة لرب العالمين ، والاستماع لسيد المرسلين ، فقال للمؤمنين : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ، يقول : لا تكونوا كالذين قالوا : أطعنا بألسنتهم وهم كاذبون في قلوبهم ، بل قلوبهم منكرة لذلك جاحدة له ، يدارون بالقول خوفا من المؤمنين والرسول ، ويكفرون من ورائه بكل الدين والتنزيل ، وهم الذين قال فيهم الرحمن الجليل : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ، وقال : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١١] ، وهم الذين قال الله فيهم من منافقي قريش والأعراب وغيرهم : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] ، فنهى المؤمنين عن مشابهة المنافقين ، ولم يكن قوله ما قال إخبارا منه بتركيب ما ذمه منهم فيهم. ولو كان الله سبحانه فعله فيهم لما نهى المؤمنين عن ذلك ، إذ هو فعله لا فعلهم ، فكيف ينهاهم عن أن يفعلوا فعله ،