يقول سبحانه : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥] ، فلم إن كان أرسله عليهم إذا يعاقبه على ما صنع فيهم؟ بل هو على غير ما يقول في الرحمن أهل الضلالة والطغيان.
ثم نقول من بعد ذلك : إن معنى قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) ، هو : خلينا ولم نحل بين أحد من بعد أن أمرنا ونهينا (٣٧٧) وليس إرساله للشياطين إلا كإرساله للآدميين ، فكل قد أمره بطاعته ونهاه عن معصيته ، وجعل فيه ما يعبده به من استطاعته ، ثم بصرهم وهداهم ولم يحل بين أحد وبين العمل ، فمن عمل بالطاعة أثابه ، ومن عمل بالمعصية عاقبه ، ولم يخرج أحدا من معصيته جبرا ، ولم يدخله في طاعته قسرا. فكان ما أعطى من (٣٧٨) الجن والإنس من الاستطاعات وترك قسرهم على الطاعات إرسالا وتخلية منه لهم في الحالات ، لا ما يقول به أهل الجهالات ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢]. فلما أخذل الكافرين بكفرهم ، ولعنهم بجرائمهم ، وتبرأ منهم بعصيانهم ، غويت بهم الشياطين ، وسولت لهم فأملت فاتبعوها ، ولم يعصوها ويبعدوها ، ولم يتذكروا عند ما يطيف بهم طائف الشيطان ، بل تكمهوا وغووا وعموا. ولم يكونوا في ذلك عنده كالذين اتقوا عند إلمام الشيطان بهم كما فعلوا ، قال الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] ، يقول سبحانه : ذكروا ما نهاهم الله عنه من طاعته ، وأمرهم به من مخالفته ، واتخاذه عدوا حين يقول : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] ، فلما أن طاف بالمؤمنين ودعاهم إلى ما أجابه إليه من الكفر بالله الفاسقون ، ذكروا الله وتذكروا أمره ونهيه ، وما أمرهم به من طاعته وحذرهم من معصيته ، فأبصروا الحق واجتنبوا اللعين وعصوه ، وفيما دعاهم إليه من العصيان خالفوه. ألا تسمع كيف أثنى عليهم بذلك ربهم ،
__________________
(٣٧٧) العبارة في (ب) هكذا : خلينا ولم نحل وتبرأنا من بعد أن أمرنا ونهينا.
(٣٧٨) هكذا في الأصل.