من كان ذا فهم ما به في القياس قلنا ، وما منه أجزنا ، وما منه دفعنا وأبطلنا.
والقياس فلا يجوز أبدا ، ولا يكون أصلا بحيلة من الحيل ، ولا يمكن أن يتناوله متناول ، ولا يطول إليه متطاول ، ولا يطمع به طامع ، إلا من بعد إحكام أصول العلم بالكتاب ، والوقوف على ما فيه من جميع الأسباب ، من الحلال والحرام ، وما جعل الله فيه من الأحكام ، وبيّن تبارك وتعالى من شرائع الإسلام التي جعلها الله سبحانه للدين قواما ، وللمسلمين إماما. ومن بعد علم أصول السنة ، وفهم فروعها المتفرعة ، فإذا تمكن المتمكن في علمه ، وأحاط بجوامع ما تحتاج إليه الأمة في دينها ، ثم تفرع فيما لا غناء بالأمة (٤٨٤) عن معرفته في جميع أسبابها ، من حلالها وحرامها ، وما جعله الله دينا لها ، وافترضه سبحانه عليها ، فإذا تفرع في علوم الدين ، وأحاط بمعرفة ما افترض على المسلمين ، فكان بذلك كله عارفا ، ومن الجهل لشيء منه سالما ، ثم كان مع ذلك ذا لب رصين ، ودين ثابت متين ، جاز له القياس في الدين ، وأمكنه الحكم في ذلك وبه بين المؤمنين ، وكان حقيقا بالصواب ، حريا باتقان الجواب.
فأما إن كان في شيء مما ذكرنا ناقصا ، أو عن بلوغه مقصرا ؛ فلن يصح له أبدا قياسه ، ولن يجوز له في دين الله التماسه ؛ لأنه للأصول غير محكم ، وبالفروع غير فهم ، ولن يقيس المثال على مثاله ، أو يحذو الشكل على شكله ، إلا العارف بمحكمات أصله ، فإذا أحكم أصله قاس بذلك فرعه. ومثل ما به قلنا من تصرف الحالات في أهل القياس والمقالات ، كمثل أهل الصناعات من الأبنية والصاغات ، فإذا كان منهم صانع محكم لعمله ، محيط بأصل صناعته ، عارف بابتدائها وانتهائها وآلاتها ، عالم بتأليفها وأحكامها ، ثم ورد عليه مثال يمثله ، أو شيء يحتذيه ويصنعه ، احتذا فيما تصور من مثاله ، بما عنده من محكم أعماله ، وأتى به على قياسه ، لمعرفته بأصل قياسه ، وإحكامه لما قد أحكم من أعماله ، فعلى قدر تفرعه في البصر بأصول الصناعات ، وتمكنه في المعرفة بها في كل الحالات ، يكون إحكامه لتمثيل المثال على مثله ، وتشبيه الشكل المطلوب منه بشكله ، حتى يكون ما يأتي
__________________
(٤٨٤) في (ب) : للأمة.