إلهام البهائم
فإن احتج فقال : قد نرى البهائم التي نعلم نحن وأنت أنها عدمت العقول تعرف أولادها وأمهاتها وتعرف طعامها وشرابها من غيره ، وتعرف ما يضرها مما ينفعها فتعتزل المضار وتتبع المنافع.
قيل له : إنما كلامنا في المثابين والمعاقبين ، من الجنة والآدميين من المأمورين والمنهيين الذين ينالون الطاعة والمعصية بما ركب فيهم من الاستطاعة ، فيكونون متخيرين لأحدهما يثابون على طاعة (٥٤٧) إن كانت منهم ، ويعاقبون على معصية (٥٤٨) إن جاءوا بها ، ولا يكون تخير الواحد من الأمرين إلا من ذي لب واضح ، وعقل راجح ، فأمّا البهائم فإنها غير مأمورة ولا منهية ، ولا مثابة ولا معاقبة ، وإنما عدمت الثواب والعقاب بما سلبته من الألباب ، وأما ما يكون منها من شيء فعلى غير معرفة ثابتة ولا تمييز ، وإنما يكون ما يكون منها من معرفة الذكر للأنثى ، ومعرفتها لأربابها ، ومعرفة الذكر بما يكون لاقحا من الإناث فهو أعرف وأكثر من معرفة الطعام والشراب والأمهات والأولاد ، فإنه منها على الإلهام وإنهن لملهمات لذلك إلهاما ، كما يلهم الطفل في صغره معرفة الثدي وطلبه له ، وبكاه وسكوته وحزنه وسروره وكل ما كان من الطفل بغير تمييز ولا عرفان ، وإنما هو طبع وإلهام ، حتى إذا كمل من عقله ما يحوز به التمييز من الأشياء ميز حينئذ فاختار ، فأخذ وترك ، وعرف ما ينفعه مما يضره ، فاجتنب ما يضره ، وطلب ما ينفعه ، وهو في صغره لو وضع قدامه تمرا وجمرا ، وملحا وسكرا ، لكان حريا بالأخذ للضار له منهما ، لعدم عقله وذهاب معرفته وفهمه ، ففي أقل مما (٥٤٩) ذكرنا إن شاء الله ما بين وكفى عن التطويل وشفى من كان مسترشدا تابعا للهدى ، والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله وملائكته
__________________
(٥٤٧) في (ج) : الطاعة.
(٥٤٨) في (ج) : المعصية.
(٥٤٩) في (ب) : أقل ما.