تسبيح المسبحين لسبب أثر الصنع من المعتبرين بذلك ، فجاز ذلك ، إذ كان بسبب أثر الصنع في هذه الأشياء كان التسبيح فيها من المسبحين ، المقرين بالله المعترفين.
وما التسبيح إلا كقول الله عزوجل : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٤٠] ، وليس الله يزين لأحد قبيحا ، ولكن لما كان سبب زينة الدنيا وما فيها من الله خلقا وجعلا ، وكان منه الإملاء للفاسقين ، والتأخير الذي به تزينت أعمالهم ، جاز أن يقال : زينا ولم يزين لهم سبحانه قبيحا من فعلهم.
كذلك قوله سبحانه : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) [الكهف : ٢٨] ، فليس الله سبحانه يغفل قلب أحد عن ذكره ، ولا يصرفه عن معرفته ، ولكن لما أن كان منه سبحانه ترك المعاجلة للمسيء على فعله ، والتأخير له في أجله ، جاز أن يقول : أغفلنا ، إذ كانت الغفلة هي الإعراض والترك للحق والتوبة والإنابة ، فجاز من قبل إملاء الله وتأخيره للمسيء المذنب أن يقول : أغفلنا على مجاز الكلام ، ومثل هذا كثير في القرآن ، يعرفه ذو الفهم والبيان.
ومما حكى الله عزوجل عن ولد يعقوب عليهالسلام : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف : ٨٢] ، فقالوا : القرية ، والقرية فإنما هي البيوت والدور ، وليس البيوت والدور تسأل ، وإنما أراد أهل القرية ؛ لأنها من سبب الأهل ، والأهل من سببها ، فجاز ذلك في اللغة العربية. وكذلك قولهم : (الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) ، والعير فإنما هي الجمال المحملة ، وليس الجمال تسأل ولا تجيب ولا تستشهد ، وإنما أرادوا أهل الجمال وأرباب الحمولة ، فقالوا : سل العير ، وإنما أرادوا أهلها.
فكذلك قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] ، يريد وإن من شيء إلا وهو يوجب التسبيح على من اعتبر ونظر ، وفكر في أثر صنع الله بما فيه ، فجاز أن يقال : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، لما أن كان أثر الصنع فيه موجبا للتسبيح لصانعه على المعتبرين من عباده.
فأما قوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] ، فهو ذم لمن لم يعتبر ، ويستدل بآثار الصنع في الأشياء ، فقال : (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) ، يريد : لا تفقهون ما به من أثر الصنع فيها ، الذي يوجب التسبيح للصانع والإجلال والتوقير ، وكان ذلك ذما لمن لا يعتبر