القاذفين ، وأخبر أنه يجب في قذف المحصنات بالحرية الغافلات المؤمنات من الحرائر العفيفات. ولو لم يرد سبحانه إحصان الحرية هاهنا لما كان لقوله : (الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) معنى ؛ لأن الإحصان هو من ذكر الإيمان ونعته ، وإنما تكون محصنة بالإحصان من بعد إيمانها ، فإذا آمنت فقد أحصنها الإيمان ، وإذا ذكر الإيمان استغنى عن ذكر الإحصان ؛ لأن الشيء الظاهر أدل على نفسه في حال ظهوره مما يكون من نعته. ألا ترى أنه إذا قيل : وما هذا الإحصان ، والإحصان يخرج على معان شتى ؛ فيقال : محصنة إيمان ؛ فيكون ذكر الإحصان دليلا على علامة الإيمان ، وإذا قيل مؤمنة فقد استغنى عن ذكر الإحصان ، إحصان الإيمان ، وذلك بظهور المسمى بنفسه ، فإذا ظهر الاسم واستوى لم يحتج إلى ذكر ما يدل عليه في المعنى ؛ لأن قولك هذه مؤمنة يجزي عن أن تقول محصنة بالإيمان ؛ لأنك قد أثبت لها أصل الإحصان وفرعه حين دعوتها بالإيمان ؛ إذ لا يكون مؤمن أبدا إلا وهو محصن بالتقوى ، والمحصن فقد يكون هذا الاسم ويخرج على معان. فدل الله سبحانه بما ذكر في هذه الآية على ما قلنا من أنه لا يجب على قاذف حد حتى يقذف حرة مؤمنة ، أو حرا مؤمنا ، فحينئذ يجب الحد على من قذف من كان كذلك في الحرية والإيمان ، فافهم هديت معنى ما ذكرنا ، وميز بعقلك تقف على ما فسرناه ، وتدبره يثبت قلبك بحول الله ما شرحناه ، فإنه قول بين ظاهر لمن تدبر ، دقيق غامض على من جهله ، فنسأل الله إيزاع ما يلزمنا من شكره ، والتوفيق لما أوجب علينا من طاعته وفرضه.
وسألت : عن قول الله سبحانه : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [المائدة : ١٠٣].
القول في ذلك أن قصي بن كلاب سنّ هذه الأسماء وجعلها لقريش فاستنت العرب بقريش في ذلك.
والبحيرة : فهي شيء كان إذا أبحر الرجل ـ ومعنى أبحر : كثر ماله ـ أخذ من إبله شيئا كثيرا أو قليلا فوسم في خدودها بحيرة ، ثمّ خلاها يزعم أن ذلك شكر لله.
والسائبة : فكان إذا لهم غائب أو مريض نذروا ان يسيبوا من إبلهم إن قدم الغائب ، أو صح المريض ، فإذا كان ذلك سيبوا شيئا منها ، ووسموا في خدودها سائبة.