ومنها : أنّ النفس الواحدة من النفوس الإنسانية فيها مع ما تتصوّره وتدركه من الصور بمنزلة عالم عظيم نفساني ، أعظم من هذا العالم الجسماني بما فيه ، وأن كلّ ما فيها من الأشجار والأنهار والأبنية والغرف حيّة بحياة واحدة ذاتية ، هي حياة النفس الّتي تدركها وتوجدها ، وأن إدراكها للصور هو بعينه إيجادها لها ، لا أنها أدركتها فأوجدتها ، أو أوجدتها فأدركتها ، بل أدركتها موجودة ، وأوجدتها مدركة ، بلا تقدّم وتأخّر ، ولا مغايرة ؛ إذ الفعل والإدراك هناك شيء واحد ، هذا لأهل الجنة.
وأمّا دار جهنّم فليست كذلك ؛ لأنها ليست دارا روحانية خالصة ، بل هي مكدّرة مشوبة بهذا العالم ، فكأنّها هي هذا العالم انساق إلى الآخرة بسائق القهرمان وزمام التسخير ، فالجهنّمي يريد ما لا يجده ، ويشتهي ما يضرّه ، ويفعل ما يكرهه ، ويختار ما يعذّبه ، ويهرب عمّا يصحبه ، قائلا : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (١) ، وجميع مشتهياته عقاربه وحيّاته.
وبالجملة : حقيقة جهنّم وما فيها هي حقيقة الدنيا ومشتهياتها ، تصوّرت للنفوس الشقية بصورة مؤلمة معذّبة ، لها محرقة لأبدانها ، مذيبة للحومها وشحومها ، مبدلة لجلودها ، مشوّهة لخلقتها ، مسوّدة لوجوهها.
ومنها : أنّه ما لم تخرب الدنيا لم توجد الآخرة ، وهذا فرقان مبين ؛ إذ لو كانت الآخرة من جوهر الدنيا لم يصح أن الدنيا تخرب ؛ لأنّ الدنيا إنّما هي دنيا بالجوهر ونحو الوجود ، لا بالتخصّصات الشخصية ، والامتيازات التعيّنية ، وإلّا لكان كلّ يوم دنيا أخرى لتبدّل الأشكال والهيئات والمشخّصات ، ولكان القول بالآخرة تناسخا ، ولكان البعث عبارة عن عمارة الدنيا بعد خرابها ، وإجماع
__________________
(١) ـ سورة الزخرف ، الآية ٣٨.