العقلاء منعقد على أنّ الدنيا تضمحلّ وتفنى ، ولا تعود ، ولا تعمر أبدا.
ومنها : أنّ الآخرة عالم تامّ لا ينتظم مع الدنيا في سلك واحد ، ولا أحدهما من الآخر في جهة واحدة ، أو في اتّصال واحد ، زماني أو مكاني ، بل لا مكان للآخرة لا كلّها ولا أجزائها ، كما دريت سابقا.
نعم ، لها إحاطة بالدنيا إحاطة الروح بالجسم ، وإنما يراها الكمّل من الأولياء الذين انقلبت نشآتهم إلى تلك النشأة في الدنيا ، دون غيرهم ؛ إذ ليس عند غيرهم منها ومن الصور الموجودة فيها إلّا الألفاظ الموضوعة شرعا لأجلها من غير دلالة لها على خصوص معانيها ، إلّا على الأمثلة البعيدة ، كما أخبر الله سبحانه عنه بقوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١) ، وقوله : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).
قال ابن عباس رضى الله عنه : ليس في الدنيا ممّا في الجنة إلّا الأسماء (٣).
ومنها : أن القدرة على الإيجاد في المادّة الأخروية أوسع وأكمل وأتمّ منها على الإيجاد في المادّة الدنيوية ، والتأثير فيها ؛ لأنّ الموجود في الدنيا لا يوجد في مكانين ، وإذا صارت النفس مشغولة باستماع واحد ومشاهدته ومماسّته صارت مستغرقة محجوبة عن غيره ، وأمّا الموجود في الآخرة فيتّسع اتّساعا لا ضيق فيه ، ولا منع ، حتّى لو اشتهى مشاهدة النبي صلىاللهعليهوآله ـ مثلا ـ ألف شخص ، في ألف مكان ، في حالة واحدة ، لشاهدوه كما خطر ببالهم في الأمكنة
__________________
(١) ـ سورة السجدة ، الآية ١٧.
(٢) ـ سورة الواقعة ، الآية ٦١.
(٣) ـ جاء في الخبر ، عن ابن عباس : كلّما ذكر الله في القرآن ممّا في الجنة وسماه ، ليس له مثل في الدنيا ، ولكن سماه الله بالاسم الّذي يعرف. أنظر : بحار الأنوار : ٨ : ١١٢.