أيضا تحديد عدمي بعدمات لا تتناهى.
وعلى كلّ حال فهو تحديد وتقييد ، وذلك تنزيه ليس له في التحقيق وجه سديد ، وحقيقة الحقّ المطلق تأباه وتنافيه ، ولا سيّما وقد نزلت الشرائع بحسب فهم التخاطب على العموم ، ولا يسوغ أن يخاطب الحقّ عبده بما يخرج عن ظاهر المفهوم ، فكما أمرنا أن نكلّم الناس بقدر عقولهم ، كذلك لا يخاطبهم أيضا إلّا بمقتضى مفهومهم ومعقولهم ، ولو لم يكن المفهوم العام معتبرا من كلّ وجه ، لكان ساقطا ، وكانت الإخبارات كلها مرموزة ؛ وذلك تدليس ، والحق تعالى يجلّ عن ذلك.
فيجب الإيمان بكلّ ما أخبر به من غير تحكّم عقلي ، ولا تأويل فكري ؛ إذ (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) (١) ، وحيث أقرّت العقول بالعجز عن إدراك الحقائق فعجزها عن إدراك حقيقة الحق أحقّ ، فلا طريق لعقل عاقل ، ولا فكر مفكّر أن يتحكّم على الذات الإلهية بإثبات أمر لها ، أو سلب حكم عنها ، إلّا بإخباره عن نفسه ، فإنّ الذات المطلقة غير منضبطة في علم عقلي ، ولا مدركة بفهم فكريّ ، ولا سيّما لا وجه للحكم بأمر على أمر إلّا بإدراك المحكوم به ، والمحكوم عليه ، والحكم حقيقة ، وحقيقته النسبة بينهما ، وهذا مقروّ عقلا وكشفا وإيمانا.
فليس لأحد أن يتحكم بفكره على إخبارات الحقّ عن نفسه ، ويأوّلها على ما يوافق غرضه ، ويلائم هواه ، فإنّ الإخبارات الإلهية مهما لم يرد فيها نصّ بتعيين وجه ، وتخصيص حكم ، فهي متضمّنة جميع المفهومات المحتملة فيها ، من غير تعيين مفهوم دون مفهوم ، وهي إنّما تنزل في العموم على المفهوم الأوّل ،
__________________
(١) ـ سورة آل عمران ، الآية ٧.