ثم إنّ تلك الصورة لا يجوز أن تفيض عليه من ذاته بالاستقلال ؛ لأنها صورة كمالية لذاتها الّتي هي ناقصة من دونها ، فلا محالة تفيض عليه ممّا فوقه ممّا هو بالفعل في إدراكها ، ولكن بتوسط استعداد منه ومرور عليه ، وهذا كإدراكنا لما سوى ذواتنا ، وما أحاطت به ذواتنا من المحسوسات والمتخيلات والموهومات والمعقولات ، فإنّ صورة هذه كلها إنّما تفيض على أنفسنا من الجوهر العقلي الّذي هو ربّ نوعنا ، ومقيم صورنا بإذن الله ، واستعداد منا ، ورجوع إلى ذلك الجوهر العقلي ، واتصال به ، كما يأتي بيانه في محله.
وإنما شرطنا فيه القوّة الهيولانية القابلة للتصور بتلك الصورة في إدراكها ؛ لأن العلم بالأمر الخارج عن ذات العالم هو كالعلم بذات العالم ، وبما في ذاته ، فلا يتحقق إلّا بالاتحاد بالمعلوم ، والاستكمال به ، بأن يكون العالم في نفسه ناقصا من جهة هذا العلم ، فيصير تاما بالمعلوم ، فتكون نسبته إليه نسبة القوّة إلى الفعل ، ونسبة النقص إلى الكمال ، فكأنه يرتقي من وجود إلى وجود أعلى منه ، وهذا أيضا من الأسرار والغوامض الّتي لا يمسّها إلّا المطهّرون. وقد كان رأي جماعة من المتقدّمين.
وممن برهن عليه من حكماء الإسلام ثقتهم ورئيسهم ، أفضل الدين القاساني رحمهالله (١) ، فإنّه استدلّ عليه بأن الإدراك لا بدّ فيه من نيل المدرك لذات
__________________
(١) ـ وهو : أفضل الدين بابا محمد القاشاني (ت ٦٧٢ ه) ، المعروف ب «بابا أفضل المرقي» ؛ لأنّه دفن ب «مرق» من قرى كاشان. الصوفي ، الشهير بالكاشاني ، كان معاصرا لخواجه نصير الدين الطوسي ، بل قيل : إنّه كان خال المحقّق الطوسي ، وقد مدحه الطوسي برباعية مشهورة. كان عارفا ، متصوّفا ، وله تصانيف كثيرة ، وله رسالات فارسية ، عرفانية ، وأشعار كثيرة متفرّقة ، وطبعت جامعة طهران مجموعة رسائله في مجلّدين ، بتصحيح الدكتور مهدوي ، ومجتبى مينوى أخيرا.
(أنظر : الذريعة : ٢ : ٣٦٤ ، وج ٩ : ١١٦ ، وهدية العارفين : ٢ : ١٢٨).