وصل
فإن كان كاملا في الحيوانية ، بأن يقوى أثر النفس فيه ، ومن شأنه أن يدخل في نشأة الملكوت ويصير حيّا بالذات ، مستقلا في تلك النشأة ، أفاض الله سبحانه عليه عشر حواسّ للإدراك ، خمسة لنشأته الظاهرة ، وخمسة لنشأته الباطنة ، فيصير ذا قدمين ، تكون له قدم في هذه النشأة ، وأخرى في تلك النشأة ، فيأخذ في تكميل النشأتين مبتدئا بالأولى الفانية ، حتّى يبلغ في تكميلها إلى حد ما يمكن له أن يجعلها آلة لتكميل الأخرى ، ثمّ يأخذ في تكميل الأخرى متوجّها إلى الله سبحانه ، وعالم الآخرة ، توجّها غريزيا ، وسلوكا ذاتيا ، كما أشير إليه في قوله تعالى ، مخاطبا لأشرف أنواعه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (١).
فتتكامل ذاته يوما فيوما بالتدريج ، باستعدادات يكتسبها من النشأة الأولى ، وأخلاق وهيئات ، إمّا في سعادة ، أو في شقاوة ، حتّى تستقل في النشأة الأخرى ، وتصير فيها بالفعل ، وتبطل عنه القوّة الاستعدادية ، فيمسك عن تحريك البدن ، ويرفض هذه النشأة الفانية ؛ استغناء عنها ، ويرتحل إلى الآخرة ارتحالا طبيعيا ، وهذا هو الموت الطبيعي للحيوان الكامل ، وهو بعينه ولادة وحياة في النشأة الأخرى ، ومبناه استقلال النفس بحياتها الذاتية ، وترك استعمالها الآلات البدنية على التدريج ، حتّى تنفرد بذاتها ، وتخلع البدن بالكلية ؛ لصيرورتها بالفعل ، وهذه الفعلية لا تنافي الشقاوة الأخروية ؛ إذ ربما تصير شيطانا بالفعل ، أو على شاكلة ما غلبت عليه صفاته الرديّة ، كذا حقّقه أستاذنا (٢) ـ سلّمه الله ـ.
__________________
(١) ـ سورة الانشقاق ، الآية ٦.
(٢) ـ أنظر : الشواهد : ٨٨ و ٨٩ ، حكمة عرشية.