معرفة حقائق الأمور من هناك ، أو بالفكر والرويّة ، باقتناص المجهولات العقلية من المعلومات ، وهذا هو الإنسان بما هو إنسان.
وإليه أشار مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ، فيما يروى أن بعض اليهود اجتاز بهعليهالسلام وهو يتكلّم مع جماعة ، فقال له : يابن أبي طالب ، لو أنك تعلّمت الفلسفة لكان يكون منك شأن من الشأن ، فقال عليهالسلام : وما تعني بالفلسفة؟ أليس من اعتدلت طباعه صفا مزاجه ، ومن صفا مزاجه قوي أثر النفس فيه ، ومن قوي أثر النفس فيه سما إلى ما يرتقيه ، ومن سما إلى ما يرتقيه فقد تخلّق بالأخلاق النفسانية ، ومن تخلّق بالأخلاق النفسانية فقد صار موجودا بما هو إنسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان ، فقد دخل في الباب الملكي الصوري ، وليس له عن هذه الغاية مغيّر (١) ، فقال اليهودي : الله أكبر يابن أبي طالب ، لقد نطقت بالفلسفة جميعها ، في هذه الكلمات ، رضي الله عنك (٢).
فصل
ومن البراهين على تجرّد نفسه الناطقة ـ سوى ما أسلفناه ـ إدراكه للكليات المحضة ، وتجريده المعاني عن المواد بالكلية ، على نحو ما قرّرناه في تجرّد القوّة المتخيّلة ؛ لتجريدها الصور عن المواد ، بل المعاني أشد تجرّدا ، وكلّ إدراك ونيل فبضرب من التجريد ، إلّا أن الحس يجرّد الصور عن المادة ، بشرط حضور المادة ، والخيال يجرّدها عنها وعن بعض غواشيها ، والوهم يجرّدها عن
__________________
(١) ـ في المصدر : معبر.
(٢) ـ ورد قريب منه في الصراط المستقيم : ١ : ٢١٣ و ٢١٤.