ثم إن الأشاعرة لمّا خشوا المعارضة على جوهر عقيدتهم «الجبر» التي حقيقتها أن العباد مجبورون على أفعالهم ولا قدرة لهم عليها ، وهي من فعل الله وحده ، وذلك بأن يقال لهم : إجبار العباد على أعمالهم ، وكونهم يفعلونها بلا إرادة منهم ، ثم يعاقبون عليها ظلم ، والله منزه عن الظلم ولا شك ، وقد جاء عن نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم فيما يرويه عن ربه : «يا عبادي ، إنّي حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا ...» الحديث (١).
ولمّا كانت تلك المعارضة متجهة ، فقد سعوا إلى تحريف آخر ، إذ زعموا أن معنى الظلم الذي تنزه الله عنه إنّما هو : التصرف في ملك الغير ، أو هو : مخالفة الأمر الذي تجب طاعته ، وهما ممتنعان في حق الله ، فلا يكون ظلما.
ثم أدخلوا القول بنفي التعليل والحكمة عن أفعال الله تعالى وزعموا أنه يفعل بمحض المشيئة.
وهو الأمر الذي وقع فيه ـ أيضا ـ البيهقيّ في قوله : «وليس لقائل أن يقول إذا خلق كسبه ويسره لعمل أهل النّار ثم عاقبه عليه كان ذلك منه ظلما ، كما ليس له أن يقول إذا مكنه منه وعلم أنه لا يتأتى منه غيره عاقبه ، كان ذلك منه ظلما ؛ لأن الظلم في كلام العرب مجاوزة للحد ، والذي هو خالقنا وخالق أكسابنا ، لا آمر فوقه ، ولا حادّ دونه وكل من سواه خلقه وملكه ، فهو يفعل في ملكه ما يشاء» (٢) (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٣).
ثم وفي موضع آخر يقول شارحا لقوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) : «فبيّن لذلك أنّه لا يجري عليه حكم غيره ، ويجري حكمه على غيره ، فغيره من المكلفين تحت حدّه ، فمن جاوز حده كان ظالما ، وليس هو تحت حدّ غيره حتى يكون لمجاوزته ظالما» (٤).
__________________
(١) أخرجه الإمام مسلم (٢٥٧٧).
(٢) «الاعتقاد» (ص ٦٣) للمصنّف.
(٣) «الاعتقاد» (ص ٦٣) للمصنّف.
(٤) (ص ٢٥٥) من هذا الكتاب.