وأمّا المانع الآخر أعني : عدم استقلالها في اللحاظ فيمكن إثبات عدم مانعّيته من وجوه :
الأوّل : أنّها وإن كانت غير مستقلّة باللحاظ ولا يمكن الإشارة إليها والحكم عليها وبها ، ولكن يمكن في اللحاظ الثاني ملاحظتها مستقلا على نحو الإجمال ، كما أنّ هذا هو طريقة وضع الألفاظ بإزائها ؛ إذ لا بدّ في مقام الوضع من لحاظ الطرفين مستقلا وعلى وجه أمكن الإشارة إليها ، فالواضع في وضع الحروف لا بدّ وأن يجعل المعنى الاسمي عنوانا ومرآتا للمعنى الحرفي ، ففي وضع «من» يلاحظ مفهوم الابتداء الملحوظ حالة للغير من حيث هو هذا المفهوم ويجعله عنوانا لنفس المعنى الحرفي الخاص ، وهكذا يمكن فيما نحن فيه ، فالمتكلّم بعد قوله : اضرب زيدا يمكن أن يلتفت إلى نفس ما جعله وأنشأه بنظرة ثانية بعنوان هذا الوجوب المنجعل الملحوظ حالة للضرب ، وبعد هذا الالتفات يقول : يوم الجمعة بجعله قيدا لنفس الوجوب.
الثاني : أن يعتبر الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى المحلّ الذي قام به المعنى الحرفي باعتبار خصوصيّته القائمة به اعني المعنى الحرفي ، فيسريان منه إلى خصوصيّته لا محالة ، مثلا السير المتخصّص بكون مبدئه البصرة بوصف أنّه متخصّص لو خلّي ونفسه يكون مطلقا ، بمعنى أنّه صادق على السير من كلّ نقطة من نقاط البصرة ، كما أنّه لو قيّد بقيد كما في قولنا : سرت من البصرة مسجدها يصير مقيّدا ، بمعنى أنّه لا يشمل كلّ سير من البصرة لا يكون مبدأه المسجد ، فالتقييد في الحقيقة يرجع إلى الخصوصيّة المبدئيّة للسير المستفادة من كلمة «من».
ولو قال : أكرم زيدا إن جاءك فقد قيّد الإكرام بوصف أنّه واجب ببعد المجيء فيدلّ على انتفاء هذا الوصف قبله ، بخلاف ما لو قال : أكرم زيدا ؛ فإنّه يدّل على أنّ الإكرام مهما وقع سواء قبل المجيء أم بعده يكون بهذا الوصف ، فالإطلاق والتقييد في الحقيقة راجعان إلى الوجوب الذي تلبّس به الإكرام.
وهذان الوجهان جاريان في القيود المذكورة في القضايا الخبريّة مثل قولنا : ضربت زيدا يوم الجمعة ؛ فإنّ جعل الظرف في هذا المثال قيدا لكلّ من الضرب