مجرّد استحسان العقل إيّاه في الأوّل واشمئزازه منه في الثاني ، من دون لزوم ترتّب شيء عليه يكون هو المنشأ للحسن والقبح ، نظير استحسان الشامّة لبعض الروائح واشمئزازه عن بعضها؛ لوضوح أنّ الموجود ليس إلّا نفس الرائحة من دون أن يكون في البين شيء آخر ورائها يكون هو المنشأ للحسن والقبح عند الشامّة.
فالحسن والقبيح العرضيّان لا بدّ وأن ينتهيا إلى ما يكون بالذات حسنا أو قبيحا وإلّا يلزم التسلسل ، فالظلم قبيح في نفسه لا بمعنى ترتّب شيء عليه ؛ إذ ننقل الكلام في هذا الشيء وهكذا إلى غير النهاية ، بل بمعنى أنّه ممّا يشمئزّ منه العقل وإن لم يرتّب عليه ضرر دنيوي ولا بعد عن ساحة المولى كما عند الدهري.
وحينئذ فلا شكّ أنّ العقل النيّر لمّا يشمئز من فعل الحرام كذلك من ترك الواجب بلا فرق ، ألا ترى أنّك كما تبتهج بإنقاذ أحد متعلّقيك من الأخ والابن ونحوهما ، كذلك يسوء حالك من ترك إنقاذه.
ويرد على الوجه المذكور أيضا أنّ محلّ هذه القاعدة ما إذا دار الأمر بين جلب المنفعة ودفع المفسدة ولم يمكن الجمع بينهما ، لا ما إذا أمكن الجمع كما فيما نحن فيه حيث إنّ المكلّف متمكّن من جلب المنفعة ودفع المفسدة معا بإتيان المأمور به في غير الفرد المنهيّ عنه، مع أنّ الأوّلية في مورد الدوران مطلقا ممنوعة ؛ إذ هي تابعة للأهمّية وربّما تكون في جانب المصلحة.
ويرد أيضا أنّ القاعدة المذكورة أجنبيّة عن المقام ؛ إذ الكلام فيه في أنّ الحكم الشرعي لمحلّ الاجتماع ما ذا يكون من الوجوب أو الحرمة بحسب الواقع ، ومن الواضح كون ذلك دائرا مدار غالبيّة كلّ من المناطين واقعا ، وهذه القاعدة نافعة بحال المكلّف الجاهل بالواقع ، فيرجّح الفعل على الترك بقضيّة أنّ المفسدة الآتية من قبل النهي دفعها أولى من جلب المنفعة الآتية من قبل الأمر.
ومنها : أنّ استقراء حكم الشارع في مواضع التعارض بين الوجوب والحرمة كحرمة صلاة الحائض في أيّام الاستظهار وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين بل الأمر بإهراق مائهما يعطي قاعدة كلّية هي : أنّ كلّ موضع تعارض فيه