وأمّا لو علم بوجود نفس الطلب بدليل لبّي وشكّ في كونه من أيّ القسمين فأصالة البراءة مقتضية للحمل على الندب ، وسرّ ذلك أنّه فيما إذا كان في البين دليل لفظي فالمقدّمات مقتضية لحمل اللفظ على ما هو أخفّ مئونة بالنسبة إلى ملاحظة المتكلّم ، وقد ذكر أنّه الوجوب ، وأمّا مع عدم الدليل اللفظي وكون الدليل لبّيا فلا مجرى للمقدّمات المذكورة حتى يعيّن الأخفّ مئونة للمتكلم ؛ لعدم وجود اللفظ ، وجريانها فرع وجوده ، وأصل البراءة وقبح العقاب بلا بيان إنّما يقتضيان الحمل على ما يكون أخفّ مئونة بالنسبة إلى المخاطب ، ولا إشكال أنّ مئونة الندب بالنسبة إليه أخفّ من الوجوب ، هذا.
وأمّا الفرق بين الوجوب والندب بالشدّة والضعف فليس في محلّه ؛ فإنّ العزم على الفعل إن كان موجودا في النفس فهو الإرادة ، وإن لم يكن فلا إرادة ، فهو أمر بسيط لا يعقل فيه الشدّة والضعف ، نعم هما يعقلان في مبادي الإرادة من الحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة ، فقد يكون الحبّ شديدا والمصلحة شديدة ، وقد يكونان ضعيفين ، ومن المعلوم أنّ الإرادة غير هذه الأشياء.
وأمّا أخفيّة الوجوب النفسي عن الغيري مئونة فلأنّ المقدّمي محتاج إلى ملاحظة الغير ، ولا يحتاج النفسي إلّا إلى ملاحظة نفسه ، مثلا لو كان نصب السلّم مطلوبا بنفسه لما احتاج المريد إلى ملاحظة أمر سوى نفسه ، وأمّا لو كان مطلوبا مقدّمة للكون على السطح فيحتاج إلى إيجابه بملاحظة الكون على السطح.
وأمّا أخفيّة التعييني عن التخييري فلأنّه لا يحتاج إلّا إلى إنشاء الإرادة في موضوع ، وأمّا التخييري فيحتاج إلى ذلك وإلى ضمّ العدل ، فأكرم زيدا يكون تعيينيّا بدون الحاجة إلى ضمّ «أو كذا» وتخييريّته محتاجة إلى ضمّه ، فيصير أكرم زيدا أو عمرا.
وأمّا العيني فوجه أخفيّته عن الكفائي أنّه محتاج إلى توجيه الإرادة نحو جميع المكلّفين ، غاية الأمر فعل البعض مسقط عن الباقين وليس متوجّها إلى الجامع ، بل إلى جميع الأشخاص ، وأمّا العيني فيكون متوجّها إلى شخص واحد.