والدليل الذي أقاموه على هذا المدّعى وجهان :
الأوّل : أنّ اللغوي خبرة في هذا الباب ، وقول الخبرة حجّة.
وجوابه أنّ الصغرى وهي خبروية اللغوي في مقام تشخيص الظواهر يمكن أن يمنع حقّ المنع ، وذلك لأنّه ليس وظيفة اللغوي إلّا تتّبع موارد الاستعمال ، فيذكرون عقيب كلّ مادّة معاني عديدة ، ويستشهدون لكلّ معنى ببعض أشعار العرب أو كلام سمعوه من العرب ، فكلّ معنى وجدوا استعمال اللفظ فيه في لسان العرب نقلوه ، وربّما كان في البين قرينة على هذا المعنى ولم ينبّهوا لذلك ؛ لأنّهم ليسوا في هذا المضمار.
وبالجملة ، لم يجر ديدنهم على تميّز الحقيقة عن المجاز ، أو المشترك عن الحقيقة والمجاز ، فلم يجدي شيئا لما هو المهمّ لنا وهو كون اللفظ عند التجرّد عن القرينة ظاهرا في المعنى الفلاني ؛ لما مرّ من أنّهم ليسوا بصدد بيان التجرّد عن القرينة والاحتفاف بها ، فلو شككنا من جهة موارد الاستعمال كان للرجوع إليهم وجه ، لأنّهم خبرة هذا المقام.
فلو عيّن بعضهم بواسطة بعض الأمارات والعلامات الدالّة على الحقيقة مثل أصالة عدم القرينة ونحوها المعنى الحقيقي عن غيره فهو في هذا التعيين غير خبرة ويكون كواحد منّا ، وخبرويّة هذا المقام إنّما يحصل بالفحص في استعمالات العرب ومحاوراتهم والممارسة لذلك حتّى يحصل له القطع في كلّ مورد مورد بأنّ المعنى الفلاني قد أراده المستعمل من حاقّ اللفظ ، وفهمه المخاطب أيضا كذلك ، وأنّ المعنى الفلاني ليس هكذا ، وإنّما اريد وفهم بمعونة القرينة الخارجة عن حاقّ اللفظ لا أن يحرز ذلك بالأمارات الظنيّة.
فعلم أنّ الرجوع إلى قول اللغوي بعد تسليم الكبرى المذكورة أعني حجيّة قول الخبرة يبتني على إحراز مقدّمتين ، الاولى : كون اللغوي بصدد تميز الحقائق عن المجازات لا صرف موارد الاستعمال ، والثانية : كونه خبرة في معرفة الحقائق والمجازات لا متّكئا على الأمارات المعمولة.
وأمّا لو كان الشكّ في مقام آخر وهو أنّ الانفهام والتبادر هل هو من حاقّ اللفظ أو من القرينة فحالهم في ذلك حالنا بلا فرق ، وليس لهم خبرويّة فيه أصلا ، و