الثالث : أن هذا النسق العجيب والتركيب البديع مقتض ترتب ما بعد الفاء على ما قبلها ترتّب المسبب على سببه والمعلول على علته ، ألا ترى أن الفسق علة حق القول عليهم ، وحق القول عليهم علة لتدميرهم ، فهكذا ، الأمر سبب لفسقهم ، ومقتض له ، وذلك هو أمر التكوين لا التشريع.
الرابع : أن إرادته سبحانه لإهلاكهم إنما كانت بعد معصيتهم ومخالفتهم لرسله ، فمعصيتهم ومخالفتهم قد تقدمت ، فأراد الله إهلاكهم ، فعاقبهم بأن قدّر عليهم الأعمال التي يتحتم معها هلاكهم.
فإن قيل : فمعصيتهم السابقة سبب لهلاكهم ، فما الفائدة في قوله (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها (١٦)) [الإسراء] وقد تقدم الفسق منهم؟.
قيل : المعصية السابقة وإن كانت سببا للهلاك ، لكن يجوز تخلف الهلاك عنها ، ولا يتحتم ، كما هو عادة الرب تعالى المعلومة في خلقه ، أنه لا يتحتم هلاكهم بمعاصيهم ، فإذا أراد إهلاكهم ولا بد ، أحدث سببا آخر ، يتحتم معه الهلاك ، ألا ترى أن ثمود لم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أخرج لهم الناقة ، فعقروها ، فأهلكوا حينئذ ، وقوم فرعون لم يهلكهم بكفرهم السابق بموسى ، حتى أراهم الآيات المتتابعات ، واستحكم بغيهم وعنادهم ، فحينئذ أهلكوا. وكذلك قوم لوط لما أراد هلاكهم ، أرسل الملائكة إلى لوط في صورة الأضياف ، فقصدوهم بالفاحشة ، ونالوا من لوط ، وتواعدوه ، وكذلك سائر الأمم ، إذا أراد الله هلاكها ، أحدث لها بغيا وعدوانا ، يأخذها على أثره ، وهذه عادته مع عباده عموما وخصوصا ، فيعصيه العبد ، وهو يحلم عنه ، ولا يعاجله حتى إذا أراد أخذه ، قيّض له عملا يأخذه به مضافا إلى أعماله الأولى ، فيظنّ الظانّ أنه أخذه بذلك العمل وحده ، وليس كذلك ، بل حقّ عليه القول بذلك ، وكان قبل ذلك لم يحق عليه القول بأعماله الأولى ، حيث عمل ما يقتضي ثبوت الحق عليه ، ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين ، ولم