يمض الحكم ؛ فإذا عمل بعد ذلك ما يقرّر غضب الرب عليه ، أمضى حكمه عليه وأنفذه. قال تعالى (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ (٥٥)) [الزخرف] وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله ، ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقر واستحكم عليهم ، إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم ، فلما أيس من إيمانهم ، تقرر الغضب واستحكم ، فحلّت العقوبة. فهذا الموضع من أسرار القرآن وأسرار التقدير الإلهي ، وفكر العبد فيه من أنفع الأمور له ، فإنه لا يدري أي المعاصي هي الموجبة التي يتحتم عندها عقوبته ، فلا يقال بعدها ، والله المستعان.
وسنعقد لهذا الفصل بابا في الفرق بين القضاء الكوني والديني ، نشبع الكلام فيه إن شاء الله ، لشدة الحاجة إليه إذ المقصود في هذا الباب مشيئة الرب ، وأنها الموجبة لكل موجود ، كما أن عدم مشيئته موجب لعدم وجود الشيء ، فهما الموجبتان ، ما شاء الله وجب وجوده ، وما لم يشأ وجب عدمه وامتناعه ، وهذا أمر يعمّ كلّ مقدور من الأعيان والأفعال والحركات والسكنات ، فسبحانه أن يكون في مملكته ما لا يشاء أو أن يشاء شيئا فلا يكون ، وإن كان فيها ما لا يحبه ولا يرضاه ، وإن كان يحب الشيء فلا يكون ، لعدم مشيئته له ، ولو شاءه لوجد.