إلى أن نبغت نابغة ، ردّوا بدعتهم ببدعة تقابلها ، وقابلوا باطلهم بباطل من جنسه ، وقالوا : العبد مجبور على أفعاله مقهور عليها ، لا تأثير له في وجودها البتة ، وهي واقعة بإرادته واختياره ، وغلا غلاتهم فقالوا : بل هي عين أفعال الله ، ولا ينسب إلى العبد إلا على المجاز ، والله سبحانه يلوم العبد ويعاقبه ويخلده في النار على ما لم يكن للعبد فيه صنع ، ولا هو فعله ، بل هو محض فعل الله ، وهذا قول الجبرية ، وهو إن لم يكن شرا من القدرية ، فليس هو بدونه في البطلان.
وإجماع الرسل واتفاق الكتب الإلهية وأدلة العقول والفطر والعيان ، يكذّب هذا القول ويرده ، والطائفتان في عمى عن الحق القويم والصراط المستقيم ، ولما رأى القاضي وغيره بطلان هذا القول وتناقضه للشرائع والعدل والجبلّة ، قالوا : قدرة العبد ، وإن لم تؤثر في وجود الفعل ، فهي مؤثرة في صفة من صفاته وتلك الصفة تسمى كسبا ، وهي متعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب ، فإن الحركة التي هي من طاعته ، والحركة التي هي من معصيته ، قد اشتركا في نفس الحركة ، وامتازت إحداهما عن الأخرى بالطاعة والمعصية ، فذات الحركة ووجودها واقع بقدرة الله وإيجاده ، وكونها طاعة ومعصية واقع بقدرة العبد وتأثيره.
وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب ، فالقائل به لم يوفه حقه ، فإنّ كونها طاعة ومعصية هو موافقة الأمر ومخالفته ، فهذه الموافقة والمخالفة إما أن تكون فعلا للعبد ، يتعلق بقدرته واختياره ، وإن كان لم يكن للعبد اختيار ولا فعل ولا كسب البتة ، فلم يثبت هؤلاء من الكسب أمرا معقولا ، ولهذا يقال : محالات الكلام ثلاثة : كسب الأشعري ، وأحوال أبي هاشم ، وطفرة النظام.
ولما رأى طائفة فساد هذا ، قالوا : المؤثر في وجود الفعل هو قدرة الرب على سبيل الاستقلال ، قالوا : ولا يمتنع اجتماع المؤثرين على أثر واحد ،