قُلُوبَهُمْ (٥)) [الصف] فالإزاغة فعله ، والزيغ فعلهم.
فإن قيل : أنتم قررتم أنه لم يقع منهم الفعل إلا بعد فعله ، وأنه لو لا إنطاقه لهم وإضحاكه وإبكاؤه لما نطقوا ولا ضحكوا ولا بكوا ، وقد دلّت هذه الآية على أن فعله بعد فعلهم ، وأنه أزاغ قلوبهم بعد أن زاغوا ، وهذا يدل على أن إزاغة قلوبهم هو حكمه عليها بالزيغ ، لا جعلها زائغة ، وكذلك قوله : أنطقنا الله ، المراد : جعل لنا آلة النّطق ، وأضحك وأبكى ، جعل لهم آلة الضحك والبكاء ، قيل : أما الإزاغة المترتبة على زيغهم فهي إزاغة أخرى غير الإزاغة التي زاغوا بها أولا عقوبة لهم على زيغهم ، والربّ تعالى يعاقب على السيئة بمثلها ، كما يثيب على الحسنة بمثلها ، فحدث لهم زيغ آخر غير الزيغ الأول ، فهم زاغوا أولا ، فجازاهم الله بإزاغة فوق زيغهم.
فإن قيل : فالزيغ الأول من فعلهم ، وهو مخلوق لله فيهم ، على غير وجه الجزاء ، وإلا تسلسل الأمر ، قيل : بل الزيغ الأول وقع جزاء لهم وعقوبة على تركهم الإيمان والتصديق لما جاءهم من الهدى ، وهذا الترك أمر عدمي ، لا يستدعي فاعلا ، فإنّ تأثير الفاعل إنما هو في الوجود لا في العدم.
فإن قيل : فهذا التّرك العدمي له سبب ، أولا سبب له؟ قيل : سببه عدم سبب ضده ، فبقي ، على العدم الأصلي ، ويشبه هذا قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ (١٩)) [الحشر] عاقبهم على نسيانهم له بأن أنساهم أنفسهم ، فنسوا مصالحها أن يفعلوها ، وعيوبها أن يصلحوها ، وحظوظها أن يتناولوها ، ومن أعظم مصالحها وأنفع حظوظها ذكرها لربها وفاطرها ، وهي لا نعيم لها ولا سرور ولا فلاح ولا صلاح إلا بذكره وحبه وطاعته ، والإقبال عليه والإعراض عما سواه ، فأنساهم ذلك لما نسوه ، وأحدث لهم هذا النسيان نسيانا آخر ، وهذا ضد حال الذين ذكروه ، ولم ينسوه ، فذكّرهم