الآخر ، لم يقل أحد قط : إن الله قد أنطق الساكت ، كما أنطق المتكلم ، وكلاهما قد أعطي آلة النطق ، ومتعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب الفعل لا الإفعال.
فإن قيل : هل تطردون هذا في جميع أفعال العبد من كفره وزناه وسرقته ، فتقولون : إنّ الله أفعله ، وهو الذي فعل ، أم تخصّون ذلك ببعض الأفعال ، فيظهر تناقضكم؟.
قيل : هاهنا أمران : أمر لغوي ، وأمر معنوي ، فأما اللغوي فإن ذلك لا يطّرد في لغة العرب ، لا يقولون : أزنى الله الرجل ، وأسرقه وأشربه وأقتله ، إذا جعله يزني ويسرق ويشرب ويقتل ، وإن كان في لغتها : أقامه وأقعده وأنطقه وأضحكه وأبكاه وأضله ، وقد يأتي هذا مضاعفا كفهّمه وعلّمه وسيّره ، وقال تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ (٧٩)) [الأنبياء] فالتفهيم منه سبحانه ، والفهم من نبيه سليمان ، وكذلك قوله : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥)) [الكهف] فالتعليم منه سبحانه ، وكذلك التسيير ، والسير والتعلم من العبد ، فهذا المعنى ثابت في جميع الأفعال ، فهو سبحانه هو الذي جعل العبد فاعلا ، كما قال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا (٧٣)) [الأنبياء] (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ (٤١)) [القصص] فهو سبحانه الذي جعل أئمة الهدى ، يهدون بأمره ، وجعل أئمة الضلال والبدع ، يدعون إلى النار ، فامتناع إطلاق : أكلمه فتكلّم ، لا يمنع من إطلاق أنطقه فنطق ، وكذلك امتناع إطلاق : أهداه بأمره ، وادعاه إلى النار ، لا يمنع من إطلاق جعله يهدي بأمره ، ويدعو إلى النار.
فإن قيل : ومع ذلك كلّه هل تقولون : إن الله سبحانه هو الذي جعل الزانيين يزنيان ، وهو الذي جمع بينهما على الفعل ، وساق أحدهما إلى صاحبه.