يعذب أشد العذاب لمن لم يعصه طرفة عين ، وأن حكمته ورحمته لا تمنع ذلك ، بل هو جائز عليه ، ولو لا خبره عن نفسه بأنه لا يفعل ذلك ، لم ننزهه عنه.
وقلت : إن تكليفه عباده بما كلفهم به بمنزلة تكليف الأعمى للكتابة ، والزّمن للطيران ، فبغّضت الرب إلى من دعوته إلى هذا الاعتقاد ، ونفّرته عنه ، وزعمت أنك تقرر بذلك توحيده ، وقد قلعت شجرة التوحيد من أصلها.
وأما منافاة الجبر للشرائع فأمر ظاهر ، لا خفاء به ، فإنّ مبنى الشرائع على الأمر والنهي ، وأمر الآمر لغيره بفعل نفسه لا بفعل المأمور ونهيه عن فعله ، لا فعل المنهي ، عبث ظاهر ، فإنّ متعلق الأمر والنهي فعل العبد وطاعته ومعصيته ، فمن لا فعل له ، كيف يتصور أن يوقعه بطاعة أو معصية ، وإذا ارتفعت حقيقة الطاعة والمعصية ، ارتفعت حقيقة الثواب والعقاب ، وكان ما يفعله الله بعباده يوم القيامة ، من النعيم والعذاب ، أحكاما جارية عليهم ، بمحض المشيئة والقدرة ، لا أنها بأسباب طاعاتهم ومعاصيهم ، بل هاهنا أمر آخر ، وهو أنّ الجبر مناف للخلق كما هو مناف للأمر ، فإن الله سبحانه له الخلق والأمر ، وما قامت السموات إلا بعدله ، فالخلق قام بعدله ، وبعدله ظهر ، كما أنّ الأمر بعدله وبعدله وجد ، فالعدل سبب وجود الخلق ، والأمر وغايته ، فهو عليه الفاعلية الغائية ، والجبر لا يجامع العدل ، ولا يجامع الشرع والتوحيد.
قال الجبري : لقد نطقت أيها السنيّ بعظيم ، وفهت بكبير ، وناقضت بين متوافقين ، وخالفت بين متلازمين ، فإن أدلة العقول والشرع المنقول قائمة على الجبر ، وما دلّ عليه العقل والنقل كيف ينافي موجب العقل والشرع ، فاسمع الآن الدليل الباهر والبرهان القاهر ، على الجبر ، ثم نتبعه بأمثال ،