في الجنة ، لفاتت آثار هذه الأسماء وتعلقاتها ، والكمال الإلهي يأبى ذلك ، فإنه الملك الحقّ المبين ، والملك هو الذي يأمر وينهى ، ويكرم ويهين ، ويثيب ويعاقب ، ويعطي ويمنع ، ويعز ويذل ، فأنزل الأبوين والذرية إلى دار ، تجري عليهم هذه الأحكام ، وأيضا فإنهم أنزلوا إلى دار ، يكون إيمانهم تاما ، فإن الإيمان قول وعمل ، وجهاد وصبر واحتمال ، وهذا كله إنما يكون في دار الامتحان ، لا في جنة النعيم.
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم ، منهم أبو الوفاء بن عقيل ، وغيره ، أنّ أعمال الرسل والأنبياء والمؤمنين في الدنيا أفضل من نعيم الجنة ، قالوا : لأن نعيم الجنة حظهم وتمتعهم ، فأين يقاس إلى الإيمان وأعماله والصلوات وقراءة القرآن والجهاد في سبيل الله وبذل النفوس في مرضاته وإيثاره على هواها وشهواتها.
فالإيمان متعلق به سبحانه ، وهو حقّه عليهم ، ونعيم الجنة متعلّق بهم ، وهو حظهم ، فهم إنما خلقوا للعبادة ، والجنة دار نعيم ، لا دار تكليف وعبادة ، وأيضا فإنه سبحانه سبق حكمه وحكمته بأن يجعل في الأرض خليفة ، وأعلم بذلك ملائكته ، فهو سبحانه قد أراد بكون هذا الخليفة وذريته في الأرض قبل خلقه ، لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة ، فلم يكن بدّ من إخراجه من الجنة إلى دار ، قدّر سكناهم فيها قبل أن يخلقه ، وكان ذلك التقدير بأسباب وحكم ، فمن أسبابه النهي عن تلك الشجرة ، وتخليته بينه وبين عدوه حتى وسوس إليه بالأكل ، وتخليته بينه وبين نفسه حتى وقع في المعصية ، وكانت تلك الأسباب موصلة إلى غايات محمودة مطلوبة ، تترتب على خروجه من الجنة ، ثم يترتب على خروجه أسباب أخر ، جعلت غايات لحكم أخر. ومن تلك الغايات عوده إليها على أكمل الوجوه ، فذلك التقدير وتلك الأسباب وغاياتها صادرة عن محض الحكمة البالغة التي