ولهذا أرسل الله جبريل إلى سيد هذا النوع الإنساني ، يخيّره بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا نبيا ، فاختار ، بتوفيق ربه له ، أن يكون عبدا رسولا ، وذكره سبحانه بأتم العبودية في أشرف مقاماته وأفضل أحواله ، كمقام الدعوة والتحدي والإسراء وإنزال القرآن. (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ (١٩)) [الجن]. (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا (٢٣)) [البقرة]. (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ (١)) [الإسراء]. (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ (١)) [الفرقان].
فأثنى عليه ، ونوّه به لعبوديته التامة له ، ولهذا يقول أهل الموقف ، حين يطلبون الشفاعة : اذهبوا إلى محمد ، عبد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر (١).
فلما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله ، وكان لها لوازم وأسباب مشروطة ، لا يحصل إلا بها ، كان من أعظم الحكمة أن أخرجوا إلى دار ، تجري عليهم فيها أحكام العبودية وأسبابها وشروطها وموجباتها ، فكان إخراجهم من الجنة تكميلا لهم ، وإتماما لنعمته عليهم ، مع ما في ذلك من محبوبات الرب تعالى ، فإنه يحبّ إجابة الدعوات ، وتفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ومغفرة الزلات ، وتكفير السيئات ودفع البليّات ، وإعزاز من يستحق العز ، وإذلال من يستحق الذل ، ونصر المظلوم وجبر الكسير ، ورفع بعض خلقه على بعض ، وجعلهم درجات ، ليعرف قدر فضله وتخصيصه ، فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار ، يحصل فيها محبوباته سبحانه ، وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها ، فالوقوف على الشيء لا بدونه ، وإيجاد لوازم الحكمة من الحكمة ، كما أن إيجاد لوازم العدل من العدل ، كما ستقف عليه في فصل إيلام الأطفال إن شاء الله.
__________________
(١) هو حديث الشفاعة ، وقد مر.