الوجه الثامن والعشرون : أنه سبحانه أبرز خلقه من العدم إلى الوجود ، ليجري عليه أحكام أسمائه وصفاته ، فيظهر كماله المقدس ، وإن كان لم يزل كاملا ، فمن كماله ظهور آثار كماله في خلقه وأمره وقضائه وقدره ووعده ووعيده ومنعه وإعطائه وإكرامه وإهانته وعدله وفضله وعفوه وإنعامه وسعة حلمه وشدة بطشه ، وقد اقتضى كماله المقدس سبحانه أنه كل يوم هو في شأن ، فمن جملة شئونه أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويشفي مريضا ، ويفك عانيا ، وينصر مظلوما ، ويغيث ملهوفا ، ويجبر كسيرا ، ويغني فقيرا ، ويجيب دعوة ، ويقيل عثرة ، ويعز ذليلا ، ويذل متكبرا ، ويقصم جبارا ، ويميت ويحيي ، ويضحك ويبكي ، يخفض ويرفع ، ويعطي ويمنع ، ويرسل رسله من الملائكة ومن البشر في تنفيذ أوامره وسوق مقاديره التي قدّرها ، إلى مواقيتها التي وقّتها لها ، وهذا كله لم يكن ليحصل في ذات البقاء ، وإنما اقتضت حكمته البالغة حصوله في دار الامتحان والابتلاء.
يوضحه الوجه التاسع والعشرون : أنّ كمال ملكه التام اقتضى كمال تصرّفه فيه بأنواع التصرف ، ولهذا جعل الله سبحانه الدور ثلاثة : دارا أخلصها للنعيم واللذة والبهجة والسرور ، ودارا أخلصها للألم والنّصب وأنواع البلاء والشرور ، ودارا خلط خيرها بشرّها ، ومزج نعيمها بشقائها ، ومزج لذتها بألمها يلتقيان ويطالبان ، وجعل عمارة تينك الدارين من هذه الدار ، وأجرى أحكامه على خلقه ، في الدور الثلاثة ، بمقتضى ربوبيته وإلهيته وعزته وحكمته وعدله ورحمته ، فلو أسكنهم كلهم دار البقاء من حين أوجدهم ، لتعطلت أحكام هذه الصفات ، ولم يترتب عليها آثارها.
يوضحه الوجه الثلاثون : أنّ يوم المعاد الأكبر يوم مظهر الأسماء والصفات وأحكامها ، ولهذا يقول سبحانه : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)) [غافر] وقال : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ (٢٦)) [الفرقان] وقال : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ