لقوة أسبابها ، وكمالها ونقصانها لنقصانها ، فمن كمّل أسباب النعيم واللذة كملت له غاياتها ، ومن حرمها حرمها ، ومن نقصها نقص له من غاياتها ، وعلى هذا قام الجزاء بالقسط والثواب والعقاب ، وكفى بهذا العالم شاهدا لذلك ، فربّ الدنيا والآخرة واحد ، وحكمته مطّردة فيهما ، وله الحمد في الأولى والآخرة ، وله الحكم وإليه ترجعون.
يوضحه الوجه الرابع والثلاثون : وهو أنّ أفضل العطاء وأجلّه على الإطلاق الإيمان وجزاؤه ، وهو لا يتحقق إلا بالامتحان والاختبار قال تعالى : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦)) [العنكبوت].
فذكر سبحانه في هذه السورة أنه لا بد أن يمتحن خلقه ، ويفتنهم ، ليتبين الصادق من الكاذب ، والمؤمن من الكافر ، ومن يشكره ويعبده ممن يكفره ويعرض عنه ويعبد غيره ، وذكر أحوال الممتحنين في العاجل والآجل ، وذكر أئمة الممتحنين في الدنيا ، وهم الرّسل وأتباعهم ، وعاقبة أمرهم ، وما صاروا إليه ، وافتتح بالإنكار على من يحسب أنه يتخلص من الامتحان والفتنة في هذه الدار ، إذا ادّعى الإيمان ، وأن حكمته سبحانه وشأنه في خلقه يأبى ذلك ، وأخبر عن سرّ هذه الفتنة والمحنة ، وهو تبيين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر ، وهو سبحانه كان يعلم ذلك قبل وقوعه ، ولكن اقتضى عدله وحمده أنه لا يجزي العباد بمجرد علمه فيهم ، بل بمعلومه إذا وجد وتحقّق ، والفتنة هي التي أظهرته وأخرجته إلى الوجود ، فحينئذ حسن وقوع الجزاء عليه ، ثم أنكر سبحانه على من لم يلتزم الإيمان به ، ومتابعة رسله خوف الفتنة والمحنة التي يمتحن بها رسله وأتباعهم ، ظنه وحسبانه أنه