بإعراضه عن الإيمان وتصديق رسله ، يتخلص من الفتنة والمحنة ، فإن بين يديه من الفتنة والمحنة والعذاب أعظم وأشق مما فرّ عنه ، فإنّ المكلفين بعد إرسال الرسل إليهم بين أمرين : إما أن يقول أحدهم : آمنت ، وإما أن لا يقول ، بل يستمر على السيئات ، فمن قال : آمنا ، امتحنه الرب تعالى ، وابتلاه لتتحقّق بالإيمان حجة إيمانه وثباته عليه ، وأنه ليس بإيمان عافية ورخاء فقط ، بل إيمان ثابت في حالتي النّعماء والبلاء ، ومن لم يؤمن ، فلا يحسب أنه يعجز ربه تعالى ، ويفوته ، بل هو في قبضته ، وناصيته بيده ، فله من البلاء أعظم مما ابتلي به من قال آمنت ، فمن آمن به وبرسله ، فلا بد أن يبتلى من أعدائه وأعداء رسله بما يؤلمه ويشق عليه ، ومن لم يؤمن به وبرسله ، فلا بد أن يعاقبه ، فيحصل له من الألم والمشقة أضعاف ألم المؤمنين ، فلا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة ، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أشد ، ثم ينقطع ، ويعقبه أعظم اللذة ، والكافر يحصل له اللذة والسرور ابتداء ، ثم ينقطع ، ويعقبه أعظم الألم والمشقة.
وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات ، فيلتذون بها ابتداء ، ثم تعقبها الآلام بحسب ما نالوه منها ، والذين يصبرون عنها ، ينالون بفقدها ابتداء ، ثم يعقب ذلك الألم من اللذة والسرور بحسب ما صبروا عنه وتركوه منها ، فالألم واللذة أمر ضروري لكل إنسان ، لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير والآجل الدائم العظيم بون (١) ، ولهذا كان خاصة العقل النظر في العواقب والغايات ، فمن ظنّ أنه يتخلص من الألم ، بحيث لا يصيبه البتة ، فظنّه أكذب الحديث ، فإن الإنسان خلق عرضة للذة والألم والسرور والحزن والفرح والغم ، وذلك من جهتين : من جهة تركّبه وطبيعته وهيئته ، فإنه مركّب من أخلاط متفاوتة متضادة ، يمتنع أو يعز اعتدالها من كل وجه ، بل
__________________
(١) بون : واسع كبير.