وعلى هذا فهاهنا إرادتان ومرادان ، إرادة أن يفعل ، ومرادها فعله القائم به ، وإرادة أن يفعل عبده ، ومرادها مفعوله المنفصل عنه ، وليسا بمتلازمين ، فقد يريد من عبده أن يفعل ، ولا يريد من نفسه إعانته على الفعل وتوفيقه له وصرف موانعه عنه ، كما أراد من إبليس أن يسجد لآدم ، ولم يرد من نفسه أن يعينه على السجود ، ويوفقه له ، ويثبّت قلبه عليه ، ويصرفه إليه ، ولو أراد ذلك منه ، لسجد له لا محالة.
وقوله : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦)) [البروج] إخباره عن إرادته لفعله لا لأفعال عبيده ، وهذا الفعل والإرادة لا ينقسم إلى خير وشر ، كما تقدم ، وعلى هذا فإذا قيل : هو مريد للشر ، أوهم أنه محبّ له راض به ، وإذا قيل : إنه لم يرده ، أوهم أنه لم يخلقه ولا كوّنه ، وكلاهما باطل ، ولذلك إذا قيل : إن الشر فعله أو أنه يفعل الشر ، أوهم أن الشر فعله القائم به ، وهذا محال ، وإذا قيل : لم يفعله أو ليس بفعل له ، أوهم أنه لم يخلقه ولم يكوّنه ، وهذا محال.
فانظر ما في إطلاق هذه الألفاظ في النفي والإثبات ، من الحق والباطل ، الذي يتبين بالاستفصال والتفصيل ، وإنّ الصواب في هذا الباب ما دلّ عليه القرآن والسنة من أن الشر لا يضاف إلى الرب تعالى ، لا وصفا ولا فعلا ، ولا يتسمى باسمه بوجه من الوجوه ، وإنما يدخل في مفعولاته بطريق العموم ، كقوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢)) [الفلق] فما هاهنا موصولة أو مصدرية ، والمصدر بمعنى المفعول ، أي : من شرّ الذي خلقه أو من شر مخلوقه ، وقد يحذف فاعله ، كقوله حكاية عن مؤمني الجن : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠)) [الجن] وقد يسند إلى محله القائم به كقول إبراهيم الخليل : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠)) [الشعراء] وقول