الشر وأسبابه ، هو واقع بقضاء الرب تعالى وقدره ، وهو المنفرد بخلقه وتقديره وتكوينه ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فالمستعاذ منه إما وصفه وإما فعله وإما مفعوله الذي هو أثر فعله ، والمفعول ليس إليه نفع ولا ضر ، ولا يضر إلا بإذن خالقه ، كما قال تعالى في أعظم ما يتضرر به العبد وهو السحر : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (١٠٢)) [البقرة].
فالذي يستعاذ منه هو بمشيئته وقضائه وقدرته ، وإعاذته منه وصرفه عن المستعيذ إنما هو بمشيئته أيضا وقضائه وقدره ، فهو المعيذ من قدره بقدره ، ومن ما يصدره عن مشيئته وإرادته بما يصدره عن مشيئته وإرادته ، والجميع واقع بإرادته الكونية القدرية ، فهو يعيذ من إرادته بإرادته ، إذ الجميع خلقه وقدره وقضاؤه ، فليس هناك خلق لغيره ، فيعيذ منه هو ، بل المستعاذ منه خلق له ، فهو الذي يعيذ عبده من نفسه بنفسه ، فيعيذه مما يريده به بما يريده به ، فليس هناك أسباب مخلوقة لغيره ، يستعيذ منها المستعيذ به ، كما يستعيذ من رجل ظلمه وقهره برجل أقوى أو نظيره.
فالمستعاذ منه هو الذنوب ، وعقوباتها ، والآلام وأسبابها ، والسبب من قضائه ، والمسبّب من قضائه ، والإعاذة بقضائه ، فهو الذي يعيذ من قضائه بقضائه ، فلم يعذ إلا بما قدّره وشاءه ، وذلك الاستعاذة منه ، وشاءها ، وقدر الإعاذة وشاءها ، فالجميع قضاؤه وقدره وموجب مشيئته ، فنتجت هذه الكلمة التي لو قالها غير الرسول ، لبادر المتكلم الجاهل إلى إنكارها وردّها ، إنه لا يملك الضر والنفع والخلق والأمر والإعاذة غيرك ، وإنّ المستعاذ منه هو بيدك وتحت تصرفك ومخلوق من خلقك ، فما استعذت إلا بك ، ولا استعذت إلا منك ، وهذا نظير قوله في الحديث الآخر : «لا ملجأ ولا منجا