والجبرية ، وإن اعترفوا بذلك بألسنتهم ، فأصولهم تناقضه ، فإنّ القدرية تنكر قدرته سبحانه على خلق ما به يهتدي العبد غير ما خلقه فيه وجبله عليه ، فليس عندهم لله حكم نافذ في عبده غير الحكم الشرعي بالأمر والنهي ، ومعلوم أنه لا يصحّ حمل الحديث على هذا الحكم ، فإنّ العبد يطيعه تارة ، ويعصيه تارة ، بخلاف الحكم الكونيّ القدري ، فإنه ماض في العبد ، ولا بد (١) قائمة بكلماته التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر. ثم قوله بعد ذلك : عدل فيّ قضاؤك ، دليل على أنّ الله سبحانه عادل في كل ما يفعله بعبده ، من قضائه كله خيره وشره حلوه ومره فعله وجزائه ، فدل الحديث على الإيمان بالقدر ، والإيمان بأن الله عادل فيما قضاه ، فالأول التوحيد ، والثاني العدل. وعند القدرية النفاة ، لو كان حكمه فيه ماضيا ، لكان ظالما له بإضلاله وعقوبته.
أما القدرية الجبرية ، فعندهم الظلم لا حقيقة له ، بل هو الممتنع لذاته ، الذي لا يدخل تحت القدرة ، فلا يقدر الرب تعالى ، عندهم ، على ما يسمى ظلما ، حتى يقال : ترك الظلم ، وفعل العدل ، فعلى قولهم ، لا فائدة في قوله : عدل في قضاؤك ، بل هو بمنزلة أن يقال : نافذ فيّ قضاؤك ولا بد ، وهو معنى قوله : ماض في حكمك ، فيكون تكريرا لا فائدة فيه ، وعلى قولهم ، فلا يكون ممدوحا بترك الظلم ، إذ لا يمدح بترك المستحيل لذاته ، ولا فائدة في قوله : إني حرّمت الظلم على نفسي ، أو يظن معناه : إني حرمت على نفسي ما لا يدخل تحت قدرتي ، وهو المستحيلات. ولا فائدة في قوله : (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)) [طه] فإن كل أحد لا يخاف من المستحيل لذاته أن يقع. ولا فائدة في قوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١)) [غافر] ولا في قوله : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)) [ق] فنفوذ حكمه في عباده
__________________
(١) هكذا بالأصل.